وتبدو أهمية إعادة طرح قضايا المسألة القومية العربية، من وجهة نظر تحاول أن تكون جديدة، حين نعرف أنّ القرن الواحد والعشرين سوف يشهد إعادة طرح واسعة لمشكلة الأمة والقومية. ففي الوقت الذي ينزع فيه العالم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن يتعولم وإلى أن يخترق حدود الدول وسياداتها، وفي الوقت الذي تتعاظم فيه التبعية المتبادلة ما بين أمم العالم سياسيا و اقتصاديا وثقافيا وإعلاميا، وفي الوقت الذي تتسارع فيه حركة الرساميل والبضائع وتتضاعف السيولات المالية العابرة للقومية، وتتحكم الشركات المتعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي إنتاجا واستهلاكا. وبكلمة واحدة في الوقت الذي يتحول فيه العالم إلى " قرية كبيرة "، في هذا الوقت يُرَّدُ الاعتبار، على نحو لم يسبق له مثيل، إلى عدة مصطلحات قومية مثل: الهوية، والأصالة، والخصوصية. وتدبُّ حيوية في النزعات القومية التي يبدو أنّ قلق العولمة قد أيقظها في كل مكان من العالم.
كما أنّ العالم يتجه نحو قيام تكتلات بشرية كبرى، سواء على مستوى إقليمي أو قاري، تشكل مجالا حيويا في الاقتصاد، وعنصرا رئيسيا في الأمن، وضمانة فعلية للاستقلال السياسي، وشرطا ضروريا للتحرر من الهيمنة الخارجية. وقد أصبح واضحا أنه في عالم اليوم لا مكان للشعوب والدول الصغيرة التي لا تنضوي في كتل بشرية ضخمة تزيد في عددها عن مائة مليون نسمة على الأقل، وتزيد في مواردها عن حجم معين يمكّنها من الصمود والاسقرار.
وأخيرا، من المؤكد أنّ دور النزعة القومية في أوائل القرن الحادي والعشرين، مقارنة بدورها السابق، سيبدو منحسرا من زاوية حملها للتغيير التاريخي. فقد تمَّ إضعاف دور " الاقتصاديات القومية " حتى صار موضع تساؤل بفعل التحولات الكبرى في التقسيم الدولي للعمل، الذي تشكل المشروعات العابرة للقوميات من كل الحجوم وحداته الأساسية، وما يقابلها من تطور للمراكز والشبكات العالمية للتبادلات الاقتصادية التي تقع، لأغراض عملية، خارج سيطرة حكومات الدول.
كل هذا، صار ممكنا بفعل الثورات التكنولوجية في النقل والاتصال، وبفعل عهد طويل من الانتقالات الحرة لعوامل الإنتاج والأفكار فوق مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، التي نشأت منذ الحرب العالمية الثانية، وتبلورت - أكثر فأكثر - في تسعينيات القرن العشرين. ومن المؤكد أنّ الأمم والحركات القومية، خاصة المضطهَدة منها، ستكون حاضرة في هذا التاريخ، ولكن بأدوار ثانوية، على الأقل في الأفق المنظور.
ويبقى السؤال عن مكانة العرب في ظل العولمة سؤال عن مكانتهم عموما في التاريخ، وبكلمة واحدة فإنه دون أن ينجز العرب " الدولة ـ الأمة " فلن يكون لهم مكان لا في العولمة ولا بعدها، كما لم يكن لهم مكان من قبل العولمة. إنّ فكرة الدولة ـ الأمة بدأت تظهر جديتها وأهميتها في ظل العولمة أكثر من ذي قبل بسبب التناقض الكبير بين السلطات السياسية والمجتمعات العربية، فالمجتمعات العربية تنتمي زمنيا، بصورة ما نسبية، إلى عصر العولمة فيما النظام السياسي في الوطن العربي ينتمي إلى مرحلة ما قبل الرأسمالية. إذ يبدو أنّ السلطات السياسية العربية وخطابها ومفرداتها وعلاقتها بالعالم أصبحت عقبة أمام الطبيعة التوحيدية للعولمة، ففي حين يتجه العالم ليصبح " قرية كونية " صار أولى بالقيادات العربية أن ترى العرب " قرية واحدة "، وبالتالي تبدو المسألة هنا سياسية – أساسا - وليست حضارية أو أخلاقية أو اجتماعية فحسب.
أهم أخطاء التيارات القومية
يتجه مفهوم الحركة القومية العربية إلى التعبير عن معنيين: أولهما، معنى واسع، يسهل على الباحث أن يكتشفه في معظم الكتابات الخاصة بالتراث القومي العربي، حيث يترادف مع التيار الفكري والسياسي للقومية العربية، الذي يتوسع بعض الباحثين العرب في الحديث عن نشأته وجذوره فيعودون إلى فترة الجاهلية لإثبات قومية العرب وسعيهم إليها منذ ذلك التاريخ، والبعض يتحدث عن الجذور الإسلامية. وثانيهما، معنى ضيق، أكثر واقعية، يشير إلى الواقع السياسي والاجتماعي الذي دفع العرب، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى الحديث عن ضرورة توفّر هوية سياسية لهم. وهذا المعنى ينطبق على البداية الحقيقية لنشأة القومية العربية، حيث كانت - آنذاك - تعبيرا عن حركة سياسية مناهضة للحكم العثماني، ساعدت الظروف السياسية والاجتماعية، التي مرت بها الأمبراطورية العثمانية آنذاك، على إثرائها وبلورتها.
وهكذا فإنّ مشروع النهضة العربية الحديثة قد استقى أغلب مفاهيمه وطموحاته وشعاراته من كتابات وتجربة الحداثة الأوروبية، فـ " لم يكن هناك في فضاء الفكر والثقافة والسياسة في العالم العربي، قبل احتكاكه بالحداثة الأوروبية، ما يمكن أن يعتبر خميرة أو جنينا لشعار " الاتحاد والترقي " الذي جعل منه المشروع النهضوي العربي قضيته الأساسية، إن لم تكن الوحيدة، ذلك لأنّ هذا الشعار نفسه هو مجرد ترجمة واقتباس لأحد شعارات الحداثة الأوروبية ".
وفي هذا السياق يجدر الانتباه إلى الاختلاف الجوهري بين مشروع الحداثة الأوروبية ومشروع النهضة العربية، من حيث أنهما لم يكونا " ينتميان إلى لحظة تاريخية واحدة، لم يكونا يعكسان نفس المرحلة من التطور. ذلك أنّ مرحلة الحداثة قد قامت في أوروبا القرن التاسع عشر بعد مرحلة " الأنوار " في القرن الثامن عشر، التي قامت هي نفسها بعد مرحلة النهضة الثانية في القرن السادس عشر، والتي سبقتها نهضة أولى في القرن الثاني عشر". ومعنى ذلك أنّ مشروع النهضة العربية كان عليه أن يتعامل مع " حداثة " استوعبت وتجاوزت " الأنوار" و " النهضة ".
إنّ الإيديولوجيا القومية العربية، بتفاوت بين حركاتها وتياراتها السياسية، لم تدرك - بعمق - مفاعيل الهيمنة الأمبريالية وقوانين عملها في العالم العربي، ليس كونها عاملا خارجيا فحسب، بل - أساسا - دورها في إعادة صياغة البنى الداخلية العربية لتكريس التجزئة. فبالرغم من إدراك هذه التيارات لضرورة التحديث والتنمية لكنها استنكفت عن الأخذ بالمضمون المعرفي والبنيوي للتحديث، حيث وقعت في " التلفيق " حين استخدمت مفهوم التحديث ولكنها قطعته عن أصوله المعرفية في آن واحد. فالوسطية الانتقائية بقيت خيارا، في النظر والعمل، لدى هذه الحركات.
كما أنّ أغلب مفكري الحركات القومية العربية ضغت عليهم النزعة الثقافوية، فأهملوا التنظير للدولة القومية، فقد كان اهتمامهم منصبّاً على التجزئة القومية وضرورة الوحدة العربية أكثر من اهتمامهم بقضية الدولة، التي حلموا بتحقيقها، فبقيت قضية التنظير للدولة قضية تابعة للقضية " الأصل " وهي الأمة. والأصل في هذا التقصير أنهم انطلقوا من أنّ الدولة العربية القطرية الحديثة " معوّق " للدولة العربية الواحدة، لأنها " تكرّس " الأمة داخل الحدود القطرية. وأساس الخطأ هو أنّ التيار القومي، خاصة عندما وصل بعضه إلى السلطة، لم يعطِ المسألة الديمقراطية اهتماما يُذكر، بل أنه كان ينظر إليها كعائق أمام التنمية، وأمام دور الحزب " الواحد " أو " القائد ". فالتعددية الفكرية والسياسية، وتنوّع المجتمع العربي قوميا وطائفيا وطبقيا، كانا يعنيان " الانقسام " و " التجزئة "، فلم يرَ التيار القومي فيهما مصدر إغناء للتجربة القومية.
لقد اهتم العرب بـ " مظاهر السلطة " أكثر مما اهتموا ببناء مرتكزات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، فالبلدان العربية استوعبت المظاهر الهيكلية لجهاز الدولة ولعملية التبقرط، ولكنّ مفهوم الدولة نفسه، بما هو حق وقانون ومؤسسات ومواطنة، ظل شبه غائب. ويبدو أنّ مكمن الإشكال راجع إلى أنّ الدعوة القومية العربية، بالرغم من الزخم الذي واكبها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خاصة، لم تبدع آليات تحققها وإنجازها في معترك التاريخ.