ولد الأمير عبد القادر بن محي الدين في شهر ماي عام 1807 ببلدة القيطنة قرب مدينة معسكر. تعلّم عبد القادر القراءة و الكتابة و هو في الخامسة من عمره، و في سن الثانية عشرة كان متمكنا من القرآن و الحديث و أصول الشريعة، و لم يبلغ سن العشرين حتى كان قد طالع أمهات الكتب العربية في التاريخ و الفلسفة و اللغة و الفلك و الجغرافية، و حتى الكتب الطبية منها، و كانت خزانة كتبه أحب مكان الى نفسه، و كان اذا خرج الى وادي الحمام أو غادر قريته الى مدينة معسكر، حمل معه واحدا من هذه الكتب ليكون رفيقه في رحلته.
لم يكتف الشاب عبد القادر بتلقى العلوم الدينية و الدنيوية بل اهتم ايضا بالفروسية و ركوب الخيل و تعلم فنون القتال، فتفوق في ذلك على غيره من الشباب. و بذلك كان عبد القادر من القلائل جدا الذين جمعوا بين العلوم الدينية و الفروسية، عكس ما كان عليه الوضع انذاك اذ انقسم المجتمع الى المرابطين المختصين في الدين و الأجواد المختصين في الفروسية و فنون القتال.
و كان يبدو و هو في الثالثة عشرة من عمره جميل الصورة حلو التقاطيع، ذا شخصية عميقة جذابة، يأسر الناس بلطفه، و يكسب ثقتهم بثقافته. و في تلك السن المبكرة بدأ ينظم الشعر و يعرضه على أبيه، فيشجعه و يسدده و هو موقن بأن مستقبل ابنه قد تحدد، و معالم شخصيته قد اتضحت، فكل شيئ من حوله كان يعده ليكون رجل أدب و علم و دين. فبينما كان أترابه يمرحون و يعبثون في الكروم و البساتين المحيطة بقرية القيطنة، كان هو يلازم مجالس أبيه التي تضم نخبة من أهل الأدب و العلم، فيصغي اءليهم مأخوذا مبهورا و هم يتبادلون الآراء و يتناشدون الشعر، و يتجادلون في معضلات الفقه أو يتذاكرون وقائع التاريخ.
و لم ترتح السلطة التركية لتلك المجالس، و ما يدور فيها من آراء، ففرضت على محي الدين الحسني سنة 1821 الاءقامة الجبرية في وهران، فانتقل عبد القادر مع أبيه اءلى تلك المدينة، و أتيح له أن يتعرف بنخبة جديدة من أهل الأدب و العلم، و أن يطلع على ألوان جديدة من الحياة، و أن يزداد اْيمانا بفساد الحكم التركي و الحاجة الماسة اءلى التطور و الاءصلاح.
و بعد سنتين من الاءحتجاز تدخل داي الجزائر فسمح لهما بالذهاب الى الحج معتقدا بأن ذلك وسيلة لابعادهما عن البلاد حتى و لو لمدة قصيرة.
و هكذا زار اعبد القادر برفقة والده كلا من تونس و مصر و سوريا و العراق، فكان لهذه الزيارة أبلغ الأثر في تعزيز ثقافته و تكوين شخصيته واطلاعه على أنماط مختلفة من الحياة الاجتماعية و السياسية و شؤون الادارة و الحكم. و خلال هذه الزيارة لم يشعر عبد القادر بالغربة قط، و انما شعر بالرغم من اختلاف الاوضاع و اللهجات بين قطر و آخر، بخصائص الشخصية العربية التي تجمع بينها جميعا و تؤلف من أبنائها أمة واحدة ذات أصالة متميزة.
عاد الشاب عبد القادر و أبوه محي الدين الى بلدتهما القيطنة بعد أكثر من سنتين قضاها في الحج و الترحال, و لوحظ بعد ذلك اعتزال عبد القادر في بيته لمدة طويلة خصها للعبادة و المطالعة الكثيرة للكتب فمثلما كان يطالع كتب الفلسفة و التاريخ التي انتجها مفكرون مسلمون كان يركز كثيرا في مطالعاته على معرفة الفكر العالمي و الأوروبي.
كان عبد القادر في الثالثة و العشرين من العمر حين أقدمت البواخر الحربية الفرنسية على انزا 37 ألف جندي في سيدي فرج .
بسرعة كبيرة جاب الخيالة عمق البلاد لاخطار السكّان بما حدث، و لدعوة المقاومين الى الصعود للجبهة. و جاء أكبر عدد من بلاد القبائل17 ألف مقاتل، و أرسل باي قسنطينة 12 ألفا، و باي التيتري 8 آلاف، و باي وهران 6 آلاف، و باي المزاب 4 آلاف بالاضافة الى الحرس التركي. و تنظّمت المقاومة في سيدي فرج و الشراقة و سطاوالي, و دامت شهرا بقيادة الآغا صهر الوالي. و في 4 يوليو أعلن الوالي استسلامه, و وقع على معاهدة ضمن فيها نظريا من طرف الغزاة حماية الممتلكات, واحترام السكّان, و حماية النساء, و المحافظة على حرمة الدين.
و بعد ذلك بأقل من شهر واحد, في 20 يوليو 1830, اجتمع زعماء القبائل في تامنفوست و بينهم بومزراق عن التيتري, و زمّوم عن أفليسان, و محي الدين والد عبد القادر عن منطقة معسكر, و في 23 يوليو 1830 أعلنوا بداية المقاومة الوطنية, فقد انتهت مقاومة الجزائر الرسمية لتبدأ فيها المقاومة الشعبية. و هب الشعب الجزائري الى الكفاح ذودا عن أرضه و قوميته و عقيدته, مؤمنا بأن الحرية بنت الجهاد, و أن الحق لا يضيع ما دام صاحبه يطالب به و يناضل من أجله, مهما تطاول الزمان و خيّل للناس أن ذلك الظلام الكثيف لن يعقبه فجر جديد.