[size=12]منهجية ابن خلدون التاريخي
منهجية ابن خلدون التاريخية
لماذا اختيار شخصية ابن خلدون بالضبط ؟.
لأنه من أشهر علماء التاريخ العرب ، ولأنه استأثر باهتمام الباحثين شرقا وغربا ، ولأننا لا نعرف عنه إلا القليل القليل مع أنه عاش في المغرب زمنا.
لماذا ابن خلدون إذن؟
لأنه العبقرية التي أهدانا إيّاها القرن الرابع عشر الميلادي، وأهملتها القرون التالية ، وكان لا بدّ من انتظار القرن الثامن عشر ليبعث ابن خلدون من جديد، ولتحدث المفاجأة في الأوساط العلمية الأوروبية بترجمة «المقدمة» إلى الفرنسية أولا، ثم إلى الإنجليزية جزئياً، مطلع القرن العشرين، وإلى الألمانية أوائل ثلاثينات القرن الماضي، إلى أن نشرت بشكل كامل سنة 1958 في بريطانيا.
وكانت المقدمة قد حظيت بدراسات عالمية للتعريف بها قبل هذا التاريخ، ثم توالت طبعاتها، مشمولة بتعليقات، منها ما قاله المؤرخ وعالم الاجتماع أرنولد توينبي من أن مقدمة ابن خلدون «أعظم مؤلف من نوعه، لم يقم بإنجازه أي عقل من قبل في أي زمان ومكان»
قال عنه روبرت فلينت في كتابه "تاريخ فلسفة التاريخ" : "إنه منقطع النظير في كل زمان ومكان, حتى ظهور فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائة عام, ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطينوس بأنداد له, وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه".
لقد تغيرت آراء علماء الغرب ، فقد كانوا يزعمون أن فيكو هو أول من فكر في علم التاريخ, ولكنهم علموا بعدئذ أن ابن خلدون قد سبقه إلى ذلك بمدة تزيد عن ثلاثة قرون ونصف القرن, وأنه أقام دراسته لتطور الحضارة الإنسانية على دعائم علمية قوية, فإذا كان كتاب فيكو يعتبر بمثابة تفلسف في تاريخ الإغريق والرومان، فإن مقدمة ابن خلدون تفلسف في تاريخ العرب والإسلام.
لقد أصبح التاريخ بفضل ابن خلدون علما منهجيا راسخا, ولم يعد سردا للحوادث بل تعليلا لها.
لقد أنشأ ابن خلدون في مقدمته علما جديدا لم يسبقه أحد لا من مفكري الشرق ولا من مفكري الغرب ، وقد أطلق ابن خلدون على علمه الجديد اسم العمران , ويفتخر ابن خلدون بهذا العلم ، ويعتبر نفسه مبتكرا ومخترعا في هذا التأليف ، ولم يكن مقلدا أو مقتبسا من أحد.
إن مقدمة ابن خلدون بما حوته من علم جديد هي التي أكسبته الشهرة الواسعة ، وخلدت اسمه بين علماء العالم، إنه إمام ومجدد في علم التاريخ, لذلك يرى كثيرون أن ابن خلدون هو أبو التاريخ أو مؤسس علم التاريخ على حد قول البروفيسور ألبان ج ويدرجي.
إن المقدمة تكاد تكون المؤلف العربي الوحيد الذي نحس أثناء قراءاته أنه أكثر معاصرة منا لأنفسنا وواقعنا, وبعبارة أخرى إننا عندما نقرا المقدمة نشعر بأننا نقرأ ما لم نكتبه بعد, ونسمع فعلا ما لم نقله بعد.
لقد كان ابن خلدون شخصية غير متوقعة بالنسبة لعصره , ذلك العصر الذي بلغ تفكك العالم الإسلامي فيه مبلغه بين دويلات طائفية متناحرة, لذلك فقد بقيت مقدمته مغمورة وضائعة وسط صخب صراع الدول الطائفية ، ووسط أمة خاملة, إلى أن ترجمها الأوربيون واستفادوا منها، وقامت دراسات متعددة حولها تعد بالآلاف, ولقد قال جورج سارتون في حق ابن خلدون : " لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى شامخا كعملاق بين قبيلة من الأقزام, بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ سابقا ميكيافلي وبودان وفيكو وكونت وكورتو، وقد اعتبر المستشرق الفرنسي سيلفيستر دي ساسي (1758-1838) الذي درس الإنتاج العلمي لابن خلدون بقوله : "انه مونتسكيو العرب, ثم فريدريك شولتز (1799-1829)الذي أشار إلى ضرورة إصدار نشرة سريعة وترجمة لهذا البحث الفلسفي لمؤلف يدعى بحق "مونتسكيو الشرق"، ذلك أن المنهج الخلدوني التاريخي تميز بالدقة العلمية, فلقد كان التاريخ قبله لونا من ألوان الأدب ، ونوعا من المسامرة وسرد الحوادث .
لقد كان الأقدمون ينظرون إلى التاريخ نظرتهم إلى ديوان أخبار، ولم يعدوه علما من العلوم له قواعده وأصوله وأسسه ومناهجه, ولا ينكر أحد أن التاريخ على يد ابن خلدون أضحى علما متكاملا راسخا, إذ لم يهتم فقط بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسأل أيضا عن كيفية حدوثها, فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث , وحاول استجلاء أهم العوامل والأسس التي تتقدم من خلالها الحضارة، وكذلك العوامل و الأسباب التي تؤذن بخرابها, لذلك اعتبره العديد من الباحثين والمتخصصين بأنه إمام لفلاسفة التاريخ , لأنه ولأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني يبتدع ابن خلدون علم الاجتماع البشري والقوانين المنظمة للحياة وتطور المجتمع.
1- التعريف بابن خلدون :
ولد عبد الرحمن بن خلدون في تونس ( إفريقية) سنة 1332 م وتوفي سنة 1406م .
وقد ولد في فترة سقطت فيها الدولة الموحدية في المغرب والأندلس ، وحوصر خلالها المسلمون في غرناطة ، وانقسم الغرب الإسلامي إلى دويلات صغيرة ضعيفة متناحرة على رأسها دولة بني مرين في المغرب الأقصى ، ودولة بني عبد الواد بالمغرب الأوسط ، والدولة الحفصية في تونس ، وأصبحت كل دويلة عدوة لجارتها .
لقد ولد عبد الرحمن بن خلدون في فترة الضعف السياسي الإسلامي ، بل ولد في مرحلة بدأت أوربا تتقدم والمسلمون يتراجعون ، لقد ولد في زمن النكسة.
وعندما بلغ سن التعلم بدأ بحفظ القرآن وتجويده ، حسب المنهج الذي كان متبعا آنذاك بالمسجد المعروف بتونس ( مسجد القبة)، درس التفسير ، الحديث ، الفقه المالكي.. التوحيد، المنطق، الفلسفة والرياضيات.
وقد تحدث ابن خلدون عن هذه المرحلة بنفسه في كتابه( التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا ).
عندما بلغ سن 17 _ سنة 739 – حدث الطاعون الكبير الذي عم من آسيا إلى الأندلس ، وفيه مات والده وأكثر من كان يأخذ عنهم العلم ، وعكف ابن خلدون على طلب العلم ، حتى استدعاه بعد 3 سنوات الوزير أبو محمد بن فزاكين بتونس لكتابة رسائله الرسمية .
وفي سنة 755 استدعاه السلطان المريني أبو عنان إلى فاس التي أمضى بها 9 سنوات في العمل ضمن الكتاب والموقعين ، وخلال هذه الفترة اتجه إلى القراءة والمطالعة.
سجن سنة 758 لاشتراكه في مؤامرة ضد السلطان المريني ، فقد دبر محاولة لتحرير الأمير عبد الرحمن محمد الحفصي صاحب بجاية المخلوع على أن يجعله حاجبا ، فبلغ المؤامرة لأبي عنان فسجنه .
وبعد خروجه اتجه إلى غرناطة بالأندلس إلى السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر باني مسجد الحمراء بغرناطة ، الذي أوكله بسفارة إلى ملك قشتالة باشبيلية ، وقد كانت سفارة ناجحة أقطعه السلطان أراضي شاسعة، وأعجبته الأندلس فاستقر بها ، واستقدم أبناءه وأهله إليها ،وهيأ لهم جميع أنواع الراحة ، لكن السعادة لم تستمر ، إذ يبدو أن الحساد ضده قد كثروا فهو الغريب وذو الحظوة عند السلطان ، فسعوا بالدسائس حتى حدثت الفجوة بينهما ، فأدرك ابن خلدون أن أيام الأندلس قد باتت قصيرة ، وأن لا مناص من الرحيل.
عاد إلى المغرب وبدا يتقلب في المناصب في كل من المغرب والجزائر وتونس حتى أصبح موضع ريبة وشك من الجميع ، فجاز مرة أخرى إلى الأندلس سنة 766هـ لينزل ضيفا عند السلطان ابن الأحمر ، لكن بلاط فاس وخشية منه منعوا أولاده من الالتحاق به فعاد إلى تلمسان ، واعتزل السياسة نهائيا ولجأ إلى جبل كزول ثم اعتكف بقلعة ابن سلامة بالجزائر ، حيث أقام بها 4 سنوات كتب خلالها كتابه الشهير (المقدمة) المشهور حاليا بمقدمة ابن خلدون.
وفي سنة 780 رجع ابن خلدون إلى تونس ، فكثرت ضده الدسائس والأحقاد ، فتذرع بقضاء فريضة الحج فركب البحر إلى الإسكندرية ، فودع بذلك المغرب والأندلس إلى غير رجعة ، وفي مصر التي مكث فيها 25 سنة من عمره أتم كتابه في التاريخ المسمى ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) وأصبح مدرسا بجامع الأزهر ، وتولى منصب القضاء.
وفي مصر فوجع ابن خلدون في أبنائه جميعا ، فقد غرقت السفينة التي قدموا فيها من تونس ، فمات أهله وأولاده ، فعظم المصاب والجزع ، فاعتزل القضاء واتجه للحج وزار بيت المقدس ، والتقى بتيمورلنك في دمشق ، ثم عاد إلى القاهرة ، وتوفي بها غفر الله له في 25 رمضان 808.
كتب ابن خلدون :
لابن خلدون كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم ...ويتكون من مقدمة وثلاث كتب ، المقدمة والكتاب الأول في موضوع العمران يشكلان ما يسمى الآن مقدمة ابن خلدون.
الكتاب الثاني يتناول تاريخ العرب إلى عصر المؤلف.
أما الكتاب الثالث فموضوعه تاريخ البربر وذكر أوليتهم وأجيالهم بالشمال الإفريقي.
وذيل المؤلف هذا الكتاب بخاتمة في سيرته الذاتية تسمى ( التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا).
التاريخ قبل ابن خلدون :
في البداية أشير إلى أنكم جميعا تدرسون مادة التاريخ ، هل تساءلتم يوما عن معنى التاريخ وماهيته ؟
ما هو التاريخ ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو بسيطة لكنها في الحقيقة شديدة التعقيد ، لماذا ؟ لأن التاريخ ليس شيئا ملموسا، بل هو شيء مجرد ، ماض زال وانقضى ، ويستحيل إعادته مرة أخرى ، فالإنسان لا يستطيع أن يسبح في النهر مرتين وفي نفس الماء.
إن المؤرخ يقوم بصناعة الحدث من جديد ، كما يتوهم أنه كان وليس كما كان ، إن الأمر يشبه...
إن التاريخ هو الإعلام بالوقت وما وقع في ذلك الوقت من حوادث وأخبار.
والتاريخ بهذا المعنى قديم ، فحين هبط آدم وحواء إلى ظهر كوكب الأرض ، وأصبح لهما ذرية أخذ آدم يقص على أبنائه مما علمه الله.
وأخذ هؤلاء يحتفظون بهذه الأخبار في ذاكرتهم لينقلوها إلى أبنائهم وأحفادهم جيلا بعد جيل ، ثم توالت الأزمان ، وبدأ الإنسان يتعلم الكتابة ، ويسجل على الجدران والعظام والجلود والألواح ، فبدأت الإنسانية مرحلة جديدة سميت مرحلة التاريخ ، أما المراحل السابقة فكانت تسمى عصور ما قبل التاريخ.
من هو المؤرخ؟
هناك أولا المؤرخ الذي عاش الأحداث بنفسه ودونها ، وهناك المؤرخ الذي جاء بعد الحدث وكتب عنه.
فالمؤرخ ليس ضروريا أن يعيش الأحداث التي يرويها ، بل يمكنه أن يجاوز العصر الذي يعيش فيه ، ليكتب عن التاريخ الماضي ، كأن يكتب مؤرخ في القرن العشرين تاريخ مصر الفرعونية ، وهنا المؤرخ يروي أحداثا لم يعشها أصلا ، وإنما يقوم بجمع المعلومات والوثائق والمخطوطات ويصنفها ، ويبدو في هذه الطريقة أسلوب المؤرخ في عرض الوقائع .
لذلك وجب أن تتوفر في المؤرخ الثقافة الواسعة والاطلاع الكبير.
وقد برز من العرب مؤرخون كثيرون حتى قبل الإسلام ، فقد كان الاهتمام شديدا خصوصا بعلم الأنساب وحفظ الشجرات .
ثم جاء الوحي القرآني الذي ضم آيات بينات تذكر قصص الأولين من الأمم ، وتدعو إلى دراسة أحوالهم والتفكير فيها وأخذ العبرة منها ..
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واتساع رقعة الإسلام ، ودخول أجناس مختلفة في الدين الجديد ، تعدد الإنتاج الفكري الهائل في التاريخ ..
ولعلماء المسلمين صور متعددة للكتابة التاريخية ، كتواريخ البلدان والأقاليم والمدن ، مثلا تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر طيفور ، تاريخ الموصل لابن الأثير ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ، وزبدة الطلب في تاريخ حلب لابن العديم ..
وهناك كتب تناولت تاريخ العالم , كتاريخ الأمم والملوك للطبري ، ومروج الذهب للمسعودي ، وتاريخ اليعقوبي وغيرها.
وتعدد كتب التاريخ عند العرب بالآلاف ، فقد ألفوا في تاريخ السيرة ، وفي تاريخ الخلفاء ، وفي تاريخ الرجال والمدن والأمصار ، وفي الأنساب ، وفي الرحلات و الغزوات .
لكننا يجب أن نشير إلى أن الكتب التاريخية مليئة بالأخبار الغير الصحيحة ، فهناك من المؤرخين من كان يكتب كل ما يسمع دون أن يتثبت من صحة ما كتب ، فهو ينقل دون تمحيص أو نقد.
التاريخ عند ابن خلدون :
عقد ابن خلدون في مقدمته فصلا كاملا ذكر فيها الأغلاط والأوهام التي وقع فيها كثير من المؤرخين بسبب الأكاذيب التي افتراها الناس ، وقد دخلت هذه الأكاذيب بسبب التشيع للآراء والمذاهب و الثقة بالناقلين ، الجهل بطبائع العمران، أي عدم عرضها على مقياس العقل والبرهان ، وقد ذكر ابن خلدون في كتابه بعض هذه الأخبار الكاذبة ..
يقول ابن خلدون : "إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها ، وأدوها إلينا كما سمعوها ، يقول الطبري : إنما أدينا ذلك حسب ما أدي إلينا ، فلئن كان فضل المؤرخين القدامى في أمانة النقل وغزارة المادة التي صنعوا منها كتبهم، فإن ابن خلدون قد أضاف إلى ذلك فضلا آخر ، لقد أجرى تحقيقات هامة على تراث أسلافه من المؤرخين ، كابن هشام ، وابن إسحاق والواقدي والبلاذري وابن عبد الحكم والطبري والمسعودي وابن الأثير، فاستبعد بعضها على أنها محض اختلاق غير ممكن الحدوث بسبب طبائع الأشياء وقوانين العمران، وشك في صحة كثير منها على أنه موضع ريبة، وقد بنى هذه التحقيقات على ما قرره في مقدمته بصدد الاجتماع الإنساني، ومناهج البحث العلمي وقواعد التحري التاريخي، فالفيصل الذي يميز الوقائع التاريخية الحقيقية من الدعاوى الكاذبة الجهل بطبائع أحوال العمران، لذلك رمى ابن خلدون في مقدمته من وراء دراسة للظواهر الاجتماعية إلى الكشف عن القوانين التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها وتطورها، وما يعرض لها من أحوال، فاستنبط قانون "المطابقة للنواميس الاجتماعية.
ج- قانون المطابقة لأحوال العمران عند ابن خلدون :
استنبط ابن خلدون قانون المطابقة للنواميس الاجتماعية ، فوضع بذلك علم العمران، وهو علم مستقل بنفسه، وكان أهم سبب دعا ابن خلدون إلى إنشاء هذا العلم الجديد، حرصه على تخليص الكتب التاريخية من الأخبار الكاذبة ، وإصلاح وتقويم ما وقع من أوهام وأخطاء ، إن تطبيق ابن خلدون لقانون المطابقة جره إلى الكشف عن القوانين الاجتماعية، وذلك لكي يجعل منها بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه معيارا صحيحا ، يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه، فإذا كان أهل الحديث مثلا يركزون جهودهم على النقد الذاتي ، فقد اكتشف ابن خلدون أهمية النقد الباطني، فإذا كانت الشريعة جملة إنشاء فإن التاريخ محض خبر، يحتاج إلى معيار خاص ومنهجية أليقة به ، وبسبب هذا رفض ابن خلدون رفضا قاطعا كل الروايات الغير موافقة لأحوال العمران .
وقد أعطى نماذج من تطبيقه لقانون العمران الذي ابتكره ، وذلك في مقدمة كتابه الأول الذي خص به "علم التاريخ وتحقيق مذهبه، وقد أورد فيه أمثلة لأخبار مستحيلة الحدوث وردت في كتب المؤرخين السابقين ، فهو يرى أن ما أورده المسعودي وغيره من أن جيوش موسى عليه السلام قد بلغت ست مائة ألف مقاتل لا يثبت أمام النقد الباطني لأسباب جغرافية وإستراتيجية.
يقول ابن خلدون : " إن المبالغة في هذا الرقم واضحة جدا ، وان تحديد الجيش بهذا العدد أمر غير معقول ، وان القوانين التي يخضع لها تزايد السكان تحكم بعدم إمكان صحته ، وذلك أن ما بين موسى ويعقوب عليهما السلام هو أربعة آباء ، فموسى هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب .
وقد كان عددهم حين دخلوا مصر في عهد يعقوب 70 نفسا ، كما ذكرت مختلف الروايات ، ومكثوا بها 120 سنة ، فيستحيل في أربعة أجيال أن يكون هذا العدد الضخم يتماشى مع منطق التزايد في النوع البشري.
ماذا تلاحظون ؟ ألا يتماشى كلام ابن خلدون مع المنطق السليم ، فلو تمعن المسعودي وغيره من المؤرخين في هذا العصر ، وعرفوا أن فرعون مصر كان يضطهد بني إسرائيل ، ويذبح أبناءهم ، لعرفوا أنه يستحيل أن يصل هذا العدد إلى أكثر من6 آلاف، والفرق واضح بين 6 آلاف و 600 ألف.
كما اعتبر دخول افريقش المغرب خرافة، وغزوات التبابعة ملوك اليمن لبلاد المغرب من الأخبار الواهية ، يفندها بأدلة عقلية وجغرافية وسياسية ، يقول ابن خلدون : " ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة من أخبار التتابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقية والبربر من بلاد المغرب " وأنهم هم من سموهم البربر لرطانتهم " وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة ، عريقة في الوهم و الغلط أشبه بحديث القصص الموضوعة ، وذلك أن ملوك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب ، وقرارهم وكراسيهم بصنعاء باليمن، وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، بحر الهند من الجنوب ، وبحر فارس الهابط من البصرة من المشرق، وبحر السويس (يقصد البحر الأحمر) الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب ، كما تراه في مصور الجغرافيا.