ملكة الاحزان مشرف سابق
الدولة : المحافظة : البحيرة المدينة : دمنهور الجامعة : الإسكندريه فرع دمنهور الكلية : كلية الآداب الفرقة : الرابعة قسم : التاريخ الشعبة : عامة عدد المساهمات : 4154 العمر : 35 الجنس :
| موضوع: مجالس العلم ومكانتها في الحضارة العربية الإسلامية الثلاثاء 12 أكتوبر 2010, 14:15 | |
| مجالس العلم ومكانتها في الحضارة العربية الإسلامية كتب: عادل زيتون 08/09/1431 الموافق 17/08/2010
إن المنتديات الفكرية و(الصالونات) الأدبية والثقافية المنتشرة فيأيامنا هذه ليست ظاهرة جديدة في تاريخ الثقافة العربية, وإنما هي تجديد, أو بالأحرى, استمرار لتقليد ثقافي عريق في حضارتنا, بل يمكن القول, باطمئنان, بأنها من الظواهر القليلة التي ظلت قائمة وفاعلة فيتاريخ الحضارة العربية الإسلامية, حتى عندما كانت تجتاز, هذه الحضارة, أكثر مراحلها ضعفاً وانحطاطاً, وعلى الرغم من اختلاف الموضوعات التيتتناولها (صالونات) ومنتديات اليوم, بشكل أو بآخر, عن تلك التي كانت تتناولها مجالس الأمس فإنها تحمل الرسالة نفسها, رسالة العلم والمعرفة والتقدم. وقد أدرك عدد من الأدباء والمؤرخين العرب المسلمين أهمية هذه المجالس وقيمتها الحضارية, فألّفوا كتباً تتناول ما كان يدور فيها من وقائع علمية وأدبية مثل عبد الرحمن الزجاجي (ت 340هـ) الذي ألّف كتاباً بعنوان: (مجالس العلماء) عرضفيه لعشرات من المجالس العلمية التي كانت تعقد في بلاط بعض الخلفاء والأمراءوالوزراء والعلماء, وما كان يجري فيها من مناقشات ومناظرات في اللغة والأدبوالتاريخ والفقه, ومثل جلال الدين السيوطي (ت 911هـ), الذي خصص فصلاً كبيراً في الجزء الثالث من كتابه المشهور: (الأشباه والنظائر) للحديث عما أطلق عليه اسم(المناظرات والمجالسات والفتاوى والمكاتبات والمراسلات). كما أشارت إلى هذه المجالسكتب الأدب, مثل كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني, وكتب التراجم, مثل كتاب(وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) لمؤلفه ابن خلكان, وكتب الطبقات, مثل كتاب )إخبار العلماء بأخبار الحكماء) لمؤلفه القفطي, وغير ذلك. يبدو أن جذور هذه المجالس إنما تعود إلىتاريخالعرب قبل الإسلام, إذ من المعروف أنه كان للعرب مجالس يجتمعون فيهالمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والمسامرة, وكانوا يسمون تلك المجالس (الأندية( ومنها نادي قريش ودار الندوة بجوار الكعبة. تقليد أموي: وقد خطت هذه المجالس في العصر الأموي خطوات واسعة, إذ أخذ الخليفةيختار المتميزين ممن كان يعاصره من الأدباء والشعراء والمؤرخين والفقهاء, ليجالس وهفي أوقات معينة, أو إذا دعاهم في وقت ما, كان الهدف من هذه المجالس سماع أخبار العرب ونوادرهم وبطولاتهم, والاطلاع على أسرار العربية وآدابها ، فمنذ أن تولىمعاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ/680م) الخلافة بدأت المجالس العلمية والأدبية تعقد في عاصمته دمشق, حيث كان يستدعي إلى مجلسه بعض العلماء والأدباء وأصحاب السير(ويستمر إلى ثلث الليل في سماع أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستهالرعيتها, وسير ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها, وغير ذلك من أخبارالأمم السالفة..).. وتشير كتب الأدب والتاريخ إلى أن هذه المجالس استمرت قائمة في عهود معظم خلفاء بني أمية, فتروى, مثلا, أن الخليفة عبد الملك بن مروان (ت 86/705م) سأل رواد مجلسه مرة: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه مرتبة ، وله علي ما يتمناه؟ فردّ أحدهم في الحال: أنف, بطن, ترقوة, ثغر, جمجمة, حلق, خد, دماغ.. فأجازهعبد الملك. ويتحدث الزجاجي عن مجلس الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ/715م) وأخيه سليمان (ت 99هـ/717 م), ويروي بعضاً مما كان يدور بينهما من مناظرات, أحياناً, حولالمفاضلة بين شاعر وآخر, مثل النابغة وامرئ القيس, حيث كان الوليد يميل إلى الأولفي حين كان سليمان يقدم الثاني. ازدهار ورسوخ: والواقع أنه لم تزدهر مجالس العلم والأدب ازدهاراً واضحاً, وتتحول إلى ظاهرة ثقافية راسخة الأركان إلا في العصر العباسي, ولاشك في أن ذلك يعود إلى شغفالخلفاء وغيرهم من رعاة العلم في ذلك العصر, بالعلم والمعرفة وتشجيعهم للعلماء والأدباء, وتكريمهم ماديا ومعنويا, وتوفير مستلزمات النهضة العلمية من حرية وتسامحومؤسسات, ولهذا كله نجد أن المجالس العلمية لم تقتصر في العصر العباسي على العاصمةبغداد فحسب, وإنما انتشرت في معظم الحواضر العربية والإسلامية, في المشرق والمغرب,كما لم تعد قصور الخلفاء هي المكان الوحيد لانعقادها, وإنما امتدت إلى قصور الوزراءوبيوت العلماء. ولم تعد المناقشات والمناظرات, في هذه المجالس تدور في ميدان واحدمن الميادين العلمية كالنحو والفقه والشعر فحسب, وإنما غدت تتناول معظم فروع العلموالمعرفة, كالتاريخ والفلسفة والطب والفلك.. إلخ, كما لم يعد صاحب المجلس, خليفة أكان أم وزيراً, يقف متسائلاً أو مشرفاً على ما يدور في مجلسه من وقائع علمية,وإنما أصبح مشاركاً ومناظراً للعلماء والأدباء في كل ما يطرح فيه من قضايا أدبية وعلمية, وفضلاً عن ذلك كله فقد صار لهذه المجالس, في هذا العصر خاصة, تقاليدهاوآدابها وأصولها وقواعدها التي ينبغي مراعاتها, بل غدت تقاليد هذه المجالس, بحدذاتها, تشكل مظهراً من مظاهر الحضارة العربية الإسلامية. وبالنسبة إلى مجالس الخلفاء, في العصر العباسي, نذكر على سبيل المثال,مجلس الخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) الذي لم يرث عن أسلافه العباسيين دولة قوية وثروة ضخمة فحسب, وإنما ورث عنهم الرغبة في العلم ورعاية أهله, فقال ابنطباطبا عنه في كتابه (الفخري في الآداب السلطانية) بأنه كان (من أفاضل الخلفاءوفصائحهم وعلمائهم وكرمائهم) وإنه (لم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراءوالفقهاء والقراء والقضاة والكتاب والندماء والمغنين ما اجتمع على باب الرشيد, وكانيصل كل واحد منهم أجزل صلة ,ويرفعه إلى أعلى درجة, وكان فاضلاً وشاعراً وراويةللأخبار والآثار والأشعار...) . وكان من رواد مجلس الرشيد الأصمعي, الذي كان يعدإماماً في الأخبار والنوادر والملح والغرائب, والكسائي الذي كان عالماً بالنحوواللغة والقراءات, وسيبويه الذي كان من أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو, ومعمر بنالمثنى (أبو عبيدة) الذي كان عالماً بعلوم العرب وأخبارهم وأنسابهم, والمؤرخالواقدي ,وقاضي القضاة أبي يوسف يعقوب وغيرهم, هذا فضلاً عن عدد كبير من الشعراءأمثال أبي العتاهية وأبي نواس ودعبل, ويمكننا أن نتعرف من خلال هؤلاء الأعلام علىالموضوعات التي كانت تناقش في مجلس الرشيد, حيث نرى أنها اشتملت على الأدب والنحووالشعر والفقه والتاريخ وغيرها من علوم ومعارف ذلك العصر. ومن المناقشات العلمية التي كانت تدور في مجلس الرشيد نذكر على سبيلالمثال ما تنقله بعض المصادر من أن الرشيد سأل في مجلسه بحضور كل من الأصمعيوالكسائي عن معنى قول الشاعر الراعي: قتلوا ابنَ عَفّانَ الخليفَة مُحرِماً ودِعَاً فلم أر مثلَه مخذولا فقال الكسائي: كان قد أحرم بالحج, فضحك الأصمعي وتهانف (أي ضحك فيسخرية) فقال له الرشيد: ما عندك يا أصمعي? فقال: والله ما أحرم بالحج ,ولا أرادأيضاً أنه دخل في شهر حرام كما يقال أشهر وأعام, إذا دخل في شهر وفي عام, فقال لهالكسائي: ما هو إلا هذا, وإلا فما معنى الإحرام? فقال الأصمعي: فخبرني عن قول عديبن زيد: قتلوا كسرى بليل محرماً فتولَّى لم يمتَّع بكَفَنْ أي إحرام لكسرى? فقال الرشيد: فما المعنى? فقال الأصمعي: يريد أنعثمان لم يأت شيئاً يوجب تحليل دمه أو قتله, وقوله (محرماً) في كسرى يعني حرمةالعهد الذي كان في عنق أصحابه, فقال الرشيد: يا أصمعي ما تطاق في الشعر. ولم يكن الخليفة يكتفي بتوجيه الأسئلة إلى علماء مجلسه , وإنما كانيشارك في بعض المناقشات التي كانت تدور فيه, فتروي المصادر أن مجلساً ضم الرشيدوالكسائي وأبا يوسف يعقوب, وأخذ أبو يوسف يذم النحو, فانبرى له الكسائي في تبيانفضل النحو وأهميته ,ثم سأل الكسائي أبا يوسف: ماذا تقول في رجل قال أنا قاتلُ غلامك? وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامك? أيهما كنت تأخذ به? فقال أبو يوسف: آخذهما جميعاً,فقال له الرشيد: أخطأت, فاستحيا أبو يوسف وقال: كيف ذلك? قال الرشيد: الذي يؤخذ بقتل الغلام الذي قال: أنا قاتلُ غلامك, بالإضافة لأنه فعل ماض, إنما الذي قال: أناقاتلٌ غلامك, بالنصب فلا يؤخذ لأنه مستقبل ، ولم يكن قد وقع بعد ، ومنذ ذلك الوقت أخذأبو يوسف يمدح العربية والنحو. تاريخوسير: ولم تنحصر المناقشات في المجالس على مسائل الأدب واللغة والفقه فحسب، وإنما كانت تتناول سير الخلفاء السابقين والمشاهير في التاريخ، وتذكر المصادر أنالخلفاء العباسيين كانوا يتوقون دائماً إلى سماعتاريخبني أمية وسير حياتهم, ويروى أن الرشيد طلب من الأصمعي أن يحدّثه عنالخليفة سليمان بن عبد الملك, فذكر الأصمعي في حديثه للرشيد أن سليمان كان نهماً فيالأكل ،حتى إنه كان يجلس وتوضع بين يديه الخراف المشوية و(هي كما أخرجت منتنانيرها) فيريد أن يأخذ شيئاً منها, ولكن الحرارة تمنعه عن ذلك فيجعل يده علىطرف جبته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ ما يريده منها, فقال الرشيد للأصمعي: (قاتلكالله, ما أعلمك بأخبارهم، اعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية, فنظرت إلى ثياب مذهبةثمينة وأكمامها (ودكة) بالدهن, فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث). ثم قالالرشيد:إلي بثياب سلمان, فأتي بها, فنظر إلى تلك الآثار فيها ظاهرة, فكساني منهاحلة, وكان الأصمعي يخرج فيها أحيانا فيقول (هذه جبة سليمان التي كسانيها الرشيد). وسار الخليفة المأمون (ت 218هـ/832م) على نهج والده في عقد مجالس العلم والأدب, بل إن مجالس المأمون فاقت مجالس الرشيد بتنوع موضوعاتها وشموليتهاوجرأتها, هذا فضلا عن أن المأمون نفسه كان من الخلفاء العباسيين الذين تميّزوا بعلمهم وثقافتهم الواسعة وتشجيعهم للعلم والعلماء, فقال السيوطي عنه : (لم يل الخلافةمن بني العباس أعلم من المأمون, وأنه (جمع الفقهاء من الآفاق وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس, فلما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها). وتؤكدالمصادر أنه بعد أن استقر المأمون خليفة في بغداد أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته, وسرعان ما غدا مجلسالمأمون حافلا بجمهرة عظيمة من العلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء والأطباء, وكان يقربهم إليه ويجزل لهم العطاء, وقد تنوعت جنسياتهم ومشاربهم الثقافية والدينية والمذهبية, ومن هؤلاء نذكر: الفراء والأصمعي والأخفش والجاحظ والواقدي واليزيدويحيى بن أكثم والنضر بن شميل... وغيرهم, ولم يكن المأمون يقف متفرجا على ما كانيدور في مجلسه من مناقشات ومناظرات, إنما كان يشارك فيها مشاركة فعالة. ويرويالزجاجي المناقشة التي دارت بين المأمون والنضر بن شميل حول الفرق بين معنى كلمة)سَدَاد) بالفتح, وكلمة (سِدَاد) بالكسر, وبيَّن أن المأمون اقتنع في نهايةالمناقشة أن (السَداد) بالفتح تعني القصد والسبيل والطريق, وأما (السِداد) بالكسرفتعني (الثلمة), وكل ما سد فهو سداد بالكسر, ومنها قول الشاعر: أضاعوني وأيَّ فتيً أضاعُوا ليوم كريهة وسِدَاد ثَغْرِ خلفاء ووزراء: ولم يقتصر انعقاد المجالس العلمية والأدبية على قصور الخلفاء, كماأشرنا, وإنما انتشرت في قصور الوزراء الذين حذوا حذو الخلفاء في الشغف بالعلموتشجيع أهله (فالناس على دين ملوكهم), كما يقال, ويأتي في مقدمة هؤلاء الوزراءالبرامكة, ولاسيما يحيى وولديه الفضل وجعفر, الذين عملوا جميعاً وزراء في عهدالخليفة هارون الرشيد, وقد امتلأت كتب الأدب والتاريخ المعاصرة لهم, ليس بالإشادةبمهارتهم السياسية والإدارية والحربية فحسب, وإنما بما تميز به هؤلاء من ثقافةوفصاحة وبلاغة وكرم, فقال ياقوت الحموي عن يحيى البرمكي بأنه كان (من أكمل أهلزمانه أدباً وفصاحة وبلاغة), وأنه كان (متقدما على أهل عصره في الإنشاء والكتابة). وأكد ذلك المسعودي بقوله عن يحيى البرمكي بأنه كان (ذا علم ومعرفة وبحث ونظر ,وكانله مجلس يجتمع فيه كثير من أهل البحث والنظر من متكلمي الإسلام وغيرهم من أهلالآراء والنحل). ولم يقف البرامكة في مجالسهم مكتوفي الأيدي, وإنما كانوا يسهمون في المناقشات والمناظرات بآرائهم وأفكارهم وثقافتهم الواسعة, وكان من رواد مجلسهم عددمن كبار العلماء والأدباء أمثال: سيبويه والكسائي والأخفش والفراء والأحمروالواقدي, ومن الشعراء أبان بن عبد الحميد وأشجع السلمي والرقاشي وغيرهم. ومن الوزراء الذين عقدت مجالس العلم والأدب في بيوتهم محمد بنعبد الملك الزيات الذي كان شاعراً كبيراً وعمل وزيراً في الدولة العباسية في أيامالمعتصم والواثق فترة قصيرة في عهد المتوكل, وكان الزيات من رعاة العلم والأدب فيعصره, وكان له مجلس علمي تعقد فيه المناقشات والمناظرات بين العلماء, وكان من روادمجلسه المازني وابن السكيت والجاحظ. كما انعقدت مجالس العلم والأدب في بيوت بعض العلماء, ويذكر القفطي فيكتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء), أن مجلساً للعلم والأدب كان يعقد في منزلالطبيب النسطوري يوحنا بن ماسويه في بغداد, وكان يحضره العلماء على اختلاف طبقاتهم من الفلاسفة والأطباء والأدباء والمتكلمين والمترجمين وغيرهم, ويمكن أن ندرك القيمةالعلمية لهذا المجلس إذا عرفنا أن الرشيد كان قد كلف يوحنا هذا بترجمة الكتب الطبيةالقديمة وعينه أميناً على الترجمة. ممدود ومقصور: أما المجالس التي كانت تعقد في حواضر الأمصار العربية والإسلامية فلاتعد ولا تحصى, ولعل من أشهر هذه المجالس تلك التي كانت تعقد في بلاط سيف الحمداني (ت 356هـ) فتجمع المصادر على أنه كان لسيف الدولة مجلس أدبي حافل في حلب, وكانيواظب على حضوره عدد من كبار الأدباء والقرّاء والقضاة , وفي مقدمتهم المتنبي, وأبوفراس الحمداني ,وابن خالويه ,والفارابي ,وأبو العباس الشاعر ,والسري الرفاء ,والنامي,والوأواء ,وغيرهم, وكان سيف الدولة يشارك في مناقشة القضايا التي كانت تطرح فيمجلسه, فقد سأل مرة من كان في مجلسه من العلماء: هل تعلمون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور? فقال ابن خالويه في الحال: عذراء وعذارى ,وصحراء وصحارى. إن دراسة تاريخ هذه المجالس وتطورهاوتقاليدها وما كان يدور فيها من مناقشات ومناظرات, علمية وأدبية, يدرك مكانتها المتميزة فيتاريخالحضارة العربية الإسلامية, فقدكانت هذه المجالس, أولاً, وقبل كل شيء مركزاً من مراكز التعلم والتعليم في آن واحد بالنسبة إلى الصفوة أو النخبة في المجتمع العربي الإسلامي آنذاك, فقد كان أصحاب هذه المجالس, من خلفاء ووزراء وأمراء, هم وأبناؤهم والعلماء والأدباء والفقهاء رواد هذهالمجالس, وقد كان الجميع يفيدون مما كان يدور في هذه المجالس من مناقشات ومناظراتواجتهادات, والأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة كثيرة, وتروي بعض المصادر قصة مفادها أنالأصمعي قال: (دخلت على هارون الرشيد ومجلسه حافل. فقال: يا أصمعي ما أغفلك عناوأجفاك لحضرتنا, قلت: والله يا أمير المؤمنين, ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك, قال: فأمرني بالجلوس, فجلست حتى خلا المجلس ولم يبق غيري ومن بين يديه من الغلمان, فقال: يا أبا سعيد, ما معنى قولك: ما لاقتني بلاد بعدك? قلت: ما أمسكتني يا أميرالمؤمنين, وأنشدت قول الشاعر: كفَّاك كفٌّ ما تليق درهماً جوداً وأخرى تعطِ بالسيف دما أي ما تمسك درهماً, فقال: أحسنت, هكذا فكن, وقّرنا في الملا وعملنا في الخلا, فإنه يقبح بالسلطان ألا يكون عالماً, إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهمإذ لم أجب, وإما أن أجيب بغير الجواب, فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت, قال (أيالأصمعي): فعلّمني أكثر مما علمته. ثانياً: كانت هذه المجالس, بالنسبة إلى العلماء والأدباء, ميدانا ًللامتحان ومسرحاً للتنافس فيما بينهم, وهذا كله شكل دافعاً لهم جميعاً للاجتهادوالبحث وشحذ الأذهان والعقول, فالحصول على عضوية هذا المجلس أو ذاك كانت أساساً مرتبطة بالسمعة العلمية لهذا العالم أو ذاك, أي بالكفاءة العلمية, كما أن الحفاظعلى عضوية هذا المجلس مرهونة بمثابرة هذا العالم واجتهاده ويقظته العلمية الدائمة. ثالثاً: رفعت هذه المجالس من مكانة العلماء والأدباء, وحققت لهم مكانة معنوية ومادية, في الدولة والمجتمع, فلم يتردد صاحب المجلس في إظهار إعجابه بهذاالعالم أو ذاك الأديب من روّاد مجلسه, كما لم يتردد في مكافأته على جواب رائع لسؤالطرح أو على تفسير خلاّق لمسألة عرضت, أو تعليق فذ على حوار دائر. إبداعات متفرقة: وتذكر المصادر أن الأصمعي قال: حضرت أنا وأبو عبيدة معمر بن المثنىعند الرشيد (وهناك رواية تقول : إن الواقعة كانت في مجلس وزير الرشيد الفضل بنالربيع) فقال لي الرشيد: كم كتابك في الخيل? فقلت: مجلد واحد, فسأل أبا عبيدة عن كتابه (عن الخيل) فقال: خمسون مجلدة, فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً منهوسمّه, فقال: لست بيطاراً وإنما هذا شيء أخذته عن العرب, فقال لي: قم يا أصمعيوا فعل ذلك, فقمتُ وأمسكتُ ناصيته ,وشرعت أذكر عضواً عضواً ,وأضع يدي عليه ,وأنشدُ ماقالت العرب فيه من شعر, إلى أن فرغت منه, فقال: خذه يا أصمعي, فأخذته, وكنت إذاأردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه. رابعاً: ولعل من أهم ما تجلت فيه مكانة هذه المجالس في الحضارةالإسلامية هو أنها أسهمت في حل عدد كبير من الإشكاليات العلمية والأدبية ,وأجابت عنالكثير من التساؤلات المعرفية التي كانت تطرح فيها, كما لعبت دوراً مهماً في تصحيحا لكثير من المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي كانت متداولة في بعض فروع العلم والمعرفة, بل لا نبالغ إذا قلنا : إنه قد تحقق في هذه المجالس بعض الإبداعات العلمية,والتي ربما لم يكن بالإمكان أن تتحقق لولا التكامل العلمي والتفاعل المعرفي اللذاندار فيها, فالأدباء أفادوا في هذه المجالس من علماء اللغة والفقهاء والمؤرخين, كماأن علماء اللغة أفادوا من الأدباء والفقهاء وهكذا... وبعبارة أخرى فقد شكل العلماءوالأدباء في هذا المجلس أو ذاك فريق عمل علميا متكاملا, وجاءت الإبداعات العلمية التي تحققت فيه, ثمرة من ثمرات تضافر جهودهم وتفاعلها. وصفوة القول: لقد أثرت هذه المجالس الثقافة العربية الإسلامية, وشكل نشاطها العلمي والأدبي, بألوانه وصوره المختلفة عاملاً مهماً من عوامل بناء الحضارةالعربية الإسلامية ,ومظهراً من مظاهر تقدمها وازدهارها. المصدر : مجلة العربي ـ العدد 534 | |
|