لقد بدأت الأسباب الموضوعية تنضج لحدوث الصراع المباشر بين قريش والمسلمين، بعد أن حسمت قريش خيار المواجهة مع المسلمين في ظلّ إصرار من قبل الرسول (ص)، على اقتحام مواطن التأثير في الحياة القرشية والمكية، ولذلك لـم يبقَ إلاَّ السبب المباشر لحصول الانفجار بين الطرفين وكان في ذلك الوقت قد ترامت الأنباء إلى يثرب أنَّ قافلة كبيرة لقريش تضمّ ألف بعير قادمة من الشام إلى مكة يقودها أبو سفيان بما لا يزيد على الأربعين من الرجال.
إنَّ وقوع مثل هذه القافلة بأيدي المسلمين سيشكل لو حصل ضربة قاصمة لقريش من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ويجعل المسلمين يحقّقون أيضاً مكسباً سياسياً واقتصادياً، يجعل من قريش عاجزة عن التصدّي لمقوم حياتها الأساسي، ما يمكن أن يؤدي إلى زوال كيانها لو استمرت الحال هذه على نفس الوتيرة من النكسات، وما نلمسه من قول الرسول (ص) فإنَّ التركيز يتمّ على العامل الاقتصادي "هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ اللّه ينفلكموها".
ولـم يعزم الرسول (ص) على أحد بالخروج ولـم يستحث متخلّفاً، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، ثُمَّ سار ـ بعد ـ بمن أمكنه الخروج، ونظراً لأنَّ أحداً لـم يكن يتوقع أنَّ لقاءً مسلحاً حاسماً سيتمخض عن التحدّي الجديد، وحسبوا أنَّ مضيهم في هذا الوجه لـم يختلف عمّا ألفوه في السرايا والغزوات السابقة، لذلك لـم يأخذوا أهبتهم الكاملة من السّلاح والتأهب.
وكانت همم المسلمين قد فترت عندما وردت إليهم أخباراً تفيد بأنَّ القافلة قد غيّرت طريقها، وغالب الرسول (ص) هذا الفتور العارض، وحذّر صحابته من عقبى العود السريع إلى المدينة إن فاتهم مال مكة وخرج إليهم رجالها، وأصرّ على ضرورة تعقب المشركين كيف كانوا، وذلك في قوله تعالى: ] كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون0 يجادلونك في الحقّ بعدما تبيّن كأنَّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون[ (الأنفال:5 ـ 6).
والذين كرهوا لقاء قريش، ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنَّهم لـم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدّة وعدد، بيد أنَّ الرسول(ص) بحكمته قد استطاع أن يبـرّد هذه المخاوف واختفت على عجل من المسلمين مشاعر التردّد، وانطلق الجميع خفافاً إلى غايتهم.
أمّا أبو سفيان فإنَّه ما إن أحسّ بالخطر على قافلته، حتّى أرسل (ضمضم بن عمرو الغفاري) إلى مكة يستصرخ أهلها حتى يُسارعوا إلى استنقاذ أموالهم. وما إن وصل ضمضم إلى مكة حتّى صرع بعيره، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، وراح يصرخ، يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمَّد مع أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث!
وسرعان ما استجاب النّاس لندائه، فهم إمّا خارج وإمّا باعث مكانه رجلاً، وتجمعت قريش كلّها في تسعمائة وخمسين رجلاً، معهم مائتا فرس يقودونها، ولـم يتخلّف من أشرافها أحد خلا أبو لهب الذي يبدو أنَّ مرضه وكبره أقعداه عن اللحاق بالمستنفرين.
لكنَّ أبا سفيان لـم ينتظر قدوم النجدة، بل بذل أقصى ما لديه من حذرٍ ودهاء لمخاتلة المسلمين والإفلات من قبضتهم، وقد كاد يسقط بالعير جمعاء في أيديهم وهم يشتدون في مسيرهم نحو بدر، غير أنَّ الحظ أسعفه، والتقى بمجدي بن عمرو فسأله إذا كان قد أحسّ بأحد، فقال له ما رأيت أحداً أنكره غير أنَّي رأيت راكبين أناخا في هذا التل ثُمَّ استقيا في شنّ لهما وانطلقا فأتى أبو سفيان مناخهما، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين ثُمَّ فتها فإذا فيها النوى، فقال: هذه واللّه علائف يثرب! وأدرك الرجلين من أصحاب محمَّد وأنَّ جيشه هنا قريب فرجع إلى العير يضرب وجهها عن الطريق شارداً نحو الساحل، تاركاً بدراً إلى يساره، وبذلك استطاع أبو سفيان أن يفلت من قبضة المسلمين.
ولما أحرز أبو سفيان القافلة أرسل إلى قريش يدعوهم إلى الرجوع إلى مكة "إنَّكم إن خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم ورجالكم فقد نجّاها اللّه فارجعوا، ولكنَّ أبا جهل بن هشام رفض العودة وأصرّ على المضي إلى بدر حيث كان للعرب هناك سوق يجتمعون فيه كلّ عام ثلاثة أيام ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر، وتفرّق علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وبجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها".
ولعلّ أبو جهل كان ينطق بما يختلج لدى قريش ويُعبّر عن الأزمة التي حلّت بها جراء ما حقّقه المسلمون من انتصار على المستويات السياسية والعسكرية والنفسية ولهذا كان لا بُدَّ لقريش من أن تعمل لكي تعيد الاعتبار إلى مكانتها، وهيمنتها على بقاع واسعة من الحجاز.
وفي المقابل كان الرسول (ص) قد انطلق بأصحابه البالغ عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً مستخلفاً على المدينة أبا لبابة ومقيماً عمرو بن أم مكتوم إماماً على الصلاة بالنّاس ودفع اللواء الأبيض إلى مصعب بن عمير، وأمّا الرايتان السوداوان فقد حمل عليّ إحداهما وتدعى العقاب، أمّا الأخرى فقد حملها بعض الأنصار.
أمّا العتاد فكان متواضعاً قياساً لما كان يمتلكه أهالي قريش فلم يكن لديهم سوى سبعين بعيراً كان كلّ ثلاثة يتناوبون واحداً منها، ومن الخيول اثنتين.
ولما وصل المسلمون قريباً من بدر حيث طريق القوافل بين مكة وبلاد الشام بعث الرسول (ص) إلى هناك اثنين من أتباعه ليحتسب له الأخبار عن قافلة أبي سفيان التي كانوا يظنون أنَّها لا زالت في المنطقة، وانطلق هو وأصحابه في أعقابهما.
وما لبث الرسول (ص) أن عسكر بأصحابه قريباً من ماء بدر وعندما حلّ المساء بعث ثلاثة من رجاله الموثوقين، عليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، على رأس جماعة من المسلمين ليتحسسوا الأحوال ويلتمسوا الأخبار، فألقوا القبض على غلامين لقريش كانا يمدانها بالماء، فجاؤوا بهما إلى الرسول (ص) ـ وهو قائم يصلي فسألوهما عن انتمائهما فاعترفا بانتمائهما للجيش القرشي "نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء".
وبعد أن أنهى (ص) صلاته سألهما عن أحوال قريش، فأخبراه: "هم واللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهم: كم القوم؟ قالا: لا ندري، قال: كم تنحرون كلّ يوم؟ قالا يوماً تسعاً ويوماً عشراً، فقال (ص): القوم بين التسعمائة والألف، ثُمَّ سألهما: فمن فيها من أشراف قريش؟ فطفقا يستعرضان عدداً من قادة قريش فيهم عتبة وشيبة أبناء ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأميّة بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود، ونوفل بن خويلد... وحينذاك أقبل الرسول (ص) على أصحابه وقال: هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ أكبادها...".
وهنا أدرك الرسول (ص) أنَّه أمام وضع جديد، يقضي بمواجهة قريش بعدتها وعديدها، بالرغم من قلّة السّلاح، ونقص الاستعداد، ولكن يحدوه أمل كبير باللّه وبالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، خاصة وأنَّه سيترتب على هذه الواقعة آثار مستقبلية على الإسلام فإن لـم يتصدَ لها في أول تحدٍّ حاسم فإنَّ نكسة خطيرة ستصيب الدعوة والدولة على السواء.
ولكن الرسول(ص) قبل أن يقدم على خوض المعركة أراد أن يستمزج آراء أصحابه، وأذاع عليهم تفاصيل ما ورد، وأحبّ أن يكونوا على علم من حقيقة الموقف ليكونوا على بصيرة من أمرهم، ووقف عمر بن الخطاب يحذره من قريش وخيلائها، وقال له رسول اللّه: "إنَّها قريش وغدرها واللّه ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، واللّه لا تسلم عزها أبداً ولتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته"، ولكنَّ المقداد بن عمرو من المهاجرين وقف وقال: يا رسول اللّه امضِ لما أراك اللّه فنحن معك واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ] اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون[ (المائدة:52)، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا فإنَّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحقّ لو سرت نبأ إلى برك العماد (موقع من وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر) ولجالدنا معك من دونها حتّى تبلغها".
وخاف أن لا يكون للأنصار رغبة في القتال، لأنَّهم عاهدوه على أن يدافعوا عنه في بلدهم، فأخذ برأيهم في ذلك أيضاً، فقال سعد بن معاذ: "قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ، فامضِ يا رسول اللّه لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف عنك رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنَّ الصبر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة اللّه.
وعندما رأى الرسول (ص) عزم أصحابه على مواجهة قريش، سرّ بذلك وقال: "سيروا وأبشروا فإنَّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين واللّه لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم".
وهنا يجب الإلفات إلى نقطة مهمة مما حصل في الاستعداد لمعركة بدر، حيثُ أخذ رسول اللّه (ص) برأي الحباب بن المنذر الذي سأله بعد أن نزل أدنى ماء من بدر، يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلاً أنزلك اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: يا رسول اللّه فإنَّ هذا ليس بمنزل فانهض بالنّاس حتّى نأتي ماء من القوم فننزله ثُمَّ نفوّر ما وراءه من الآبار ثُمَّ نبني عليها حوضاً فنملأه ماء، ثُمَّ نقاتل القوم فنشرب ولا يشربـون فقال الرسول (ص): لقد أشرت بالرأي ثُمَّ أمر بتنفيذ خطّته، فلم يجىء نصف الليل حتّى تحولوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء".
وقضى المسلمون ليلاً هادئاً وغمرت الثقة قلوبهم، وتساقط عليهم مطر خفيف فلبدت أرض الصحراء بما يتيح للمسلمين حركة سريعة فوقها وقد تحدّث القرآن الكريـم عن هـذه الأجواء بقوله تعالى: ] إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزّل عليكم من السّماء ماء ليطهركم به ويُذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام[ (الأنفال:11).
وقد عبّر الرسول (ص) عن خطورة المواجهة مع قريش، وأنَّ الانتصار فيها سيحقّق للمسلمين مكاسب مهمة على كافة الصعد لا سيما على الصعيد الديني ما يشكل ديمومة واستمراراً للدين الإسلامي، وقد جاء في دعائه: "اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض"، مدللاً على انقياده المطلق للّه وأنَّ النصر منه سبحانه: "اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ نصرك"، وجاء في موقع آخر في دعائه: "اللّهمّ هذي قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذّب رسولك، اللّهمّ فنصرك الذي وعدتني".
وعندما حلّ الفجر كان الرسول (ص) قد صلّى بالمسلمين وراح ينظمهم صفوفاً ويحرضهم على القتال، وأرسل عمّاراً بن ياسر وابن مسعود فطافا بالمشركين ثُمَّ رجعا إلى النبيّ (ص) يخبراه بأنَّ القوم مذعورون فزعون، كما أنَّ الخلاف حصل بين قادة قريش فرأى بعضهم التخلي عن القتال والعودة إلى مكة بعدما عرفوا نزول المسلمين قريباً منهم، وعلى رأس هؤلاء حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة، إلاَّ أنَّ أبا جهل أصرّ على الحرب واستثار عامر بن الحضرمي بتذكيره بمقتل أخيه عمرو في سرية عبد اللّه بن جحش الذي تفاعل مع هذه الاستثارة ما دفع قريشاً بدورها لأن تستفز وتصرّ على القتال.
وفي صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان تقدم الأسود بن عبد الأسد المخزومي الذي عرف بشراسة الطبع وسوء الخلق، وقال: أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنّه أو أموتن دونه، فتصدّى له حمزة بن عبد المطلب وتمكن من قتله في الحوض نفسه، وبرز عتبة بن ربيعة يحفّ به أخوه شيبة وابنه الوليد ودعا إلى المبارزة فخرج إليه ثلاثة من فتيان الأنصار، ولكنَّ القرشيين دعوا النبيّ (ص) أن ينازلهم أكفاء من قومهم، فاستجاب الرسول (ص) لهذا التحدّي وأمر عبيدة بن الحارث وحمزة عليّاً (ع) بالتصدّي لهم.
وسرعان ما تمكن حمزة من قتل شيبة وفعل عليّ ذلك بغريمه الوليد، أمّا عبيدة فقد جرح غريمه وأصابه هو الآخر بجرح مميت فانقض عليّ والحمزة عليه وأجهزا عليه وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين حيثُ توفي.
هذه الجولة أغاظت قريش ومن جانبها حفزت المسلمين على القتال خاصة بعد أن أمطرت قريش معسكر المسلمين بوابل من السهام، وزحف الجيشان نحو بعضهما وأصدر الرسول أوامره إلى أصحابه ألاّ يهاجموا حتّى يأذن لهم وأن يبعدوا مهاجميهم القرشيين بالنبال.
وعاد (ص) إلى العريش يراقب المعركة ويشرف عليها وهو يدعو ربّه ويقول: "اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد".
ولما اتسع نطاق المعركة، واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم، وألحقوا بهم خسائر فادحة، وخرج الرسول (ص) من موقعه يحثهم على القتال، وهو يقول: "والذي نفس محمَّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر إلاَّ أدخله اللّه الجنّة"، وراح الرسول (ص) يجالد المشركين بنفسه ويتقدّم الصفوف حتّى أنَّ عليّاً (ع) قال عنه: "لما أن كان يوم بدر وحضر البأس التقينا برسول اللّه وكان أشدّ النّاس بأساً وما كان منّا أحد أقرب إلى العدو منه".
ووهت صفوف المشركين تحت وطأة الضغط الذي مارسه المسلمون عليهم، تدفعهم إلى ذلك موجة عارمة من الإيمان ورغبة عميقة بالاستشهاد، تؤازرهم ثلة من الملائكة المقربين، وهو قوله تعالى: ] إذ يوحي ربُّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان0ذلك بأنَّهم شاقوا اللّه ورسوله ومن يشاقق اللّه ورسوله فإنَّ اللّه شديد العقاب0ذلكم فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النّار[ (الأنفال:12ـ14).
وحاول أبو جهل أن يستنهض قومه وتلافي الهزيمة اللاحقة بهم، ودعاهم إلى الصمود فأحاطت به فلول المشركين، ولكن هذه الغابة من المشركين لـم تصمد أمام قوّة إيمان المسلمين ورباطة جأشهم، يعززهم الإيمان الراسخ، ووقع أبو جهل نفسه في مصيدة المؤمنين.
ولحقت بالمشركين هزيمة ساحقة، وفروا لا يلوون على شيء، مخلفين وراءهم ما يربو على سبعين قتيلاً ومثلهم أسرى، أمّا خسائر المسلمين فكانت أربعة عشر شهيداً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
وفي ذلك قال سبحانه وتعالى: ] ولقد نصركم ببدر وأنتم أذلة فاتقوا اللّه لعلّكم تشكرون[ (آل عمران:123).
ولـم يلبث أن بعث الرسول (ص) عبد اللّه بن رواحة وزيد بن الحارثة إلى المدينة ليبشروا أهلها بانتصار المسلمين وأقبل في أعقابهما بعد تسعة عشر يوماً من غيابه عنها مستصحباً معه أسرى المشركين بعد أن قسّم الغنائم على المسلمين على السواء، وعندما وصل إلى (الروحاء) قريباً من المدينة لقيه المسلمون الذين لـم يخرجوا للقتال يهنئونه بما فتح اللّه عليه ومن معه من المسلمين... وما إن وصل إلى المدينة حتى فرّق الأسارى بين أصحابه.
ومن اللافت أنَّ العديد من القضايا المتعلّقة بشؤون المجتمع، وخاصة في حالة الحرب، تدخل الوحي بعد معركة بدر للتشريع لها وحلّها، ومنها مسألة الخلاف حول حيازة الغنائم، ومحاولة كلّ فريق الاستئثار بها، فأنزل اللّه سبحانه وتعالى: ] يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرسول فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا اللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين[ (الأنفال:1) فقسّمها رسول اللّه بين المسلمين بعد أن أخرج خمسها كما نصّت الآية: ] واعلموا أنَّما غنمتم من شيء فإنَّ للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم باللّه وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان واللّه على كلّ شيء قدير[ (الأنفال:41).
كما تطرق الوحي لقضية الأسرى الذين وقعوا في قبضة المسلمين، وشرّع لها، وكان(ص) قد وزعهم بين المسلمين وأمرهم أن يستوصوا بهم خيراً، فرأى البعض الإبقاء عليهم للانتفاع بثرواتهم، ورأى آخرون ضرورة الاقتصاص من مآثمهم السابقة وجاء في بعض المرويات أنَّه فرض على من يحسن القراءة والكتابة أن يعلّمها لأطفال المسلمين في مقابل فدائه، وكانت الفدية تتراوح ما بين ألفي درهم وأربعة آلاف درهم، وفي ذلك قوله تعالى: [وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا واللّه يريد الآخـرة واللّه عزيزٌ حكيم لولا كتاب من اللّه سبق لمسّكم فيما أخذتـم عذاب عظيم[ (الأنفال:68).
وجاء في آية أخرى:] فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا اللّه إنَّ اللّه غفورٌ رحيم0يا أيُّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى أن يعلم اللّه في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم واللّه غفور رحيم0وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا اللّه من قبل فأمكن منهم واللّه عليم حكيم[ (الأنفال:69ـ71).
واختلف المفسرون في أنَّ الخطاب متجه في هذه الآيات إلى النبيّ (ص) أو إلى المسلمين والرأي الراجح أنَّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى المسلمين.
وفي ما يتعلّق بالأسرى، فإنَّ الآية الثانية التي وردت ليس فيها ما يدلّ على تحريـم الأسر، وتؤكد إباحة ما أخذوه من الغنائم التي تشمل فداء الأسرى.
أحدث انتصار المسلمين في موقعة بدر صدمة عنيفة أفقدت قريش توازنها، وخلخلت قوّتها العسكرية، ما أدّى إلى حرمانها من تفوقها في الحجاز، ما جعل أهل مكة ينطوون على أنفسهم، ويداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم استعداداً لنيل ثأرهم.
وفي المقابل أظهرت المعركة المسلمين كقوّة لا يُستهان بها، ما فتح عيون القبائل العربية على واقع جديد جعلها تأخذ احتياطاتها اللازمة بشأن العلاقة مع قريش للحفاظ على مصالحها، كما أنَّه وسّع من دائرة الاستهداف الإسلامي لقريش، حيثُ أضحى الساحل الحجازي برمته منطقةً غير آمنة للقوافل التجارية، ما اضطر قريش إلى تغيير طرق القوافل، وهذا ما دلّت عليه السرايا والغزوات التي أنفذها المسلمون بعد موقعة بدر.
أمّا على صعيد المدينة، فقد شكلت أنباء انتصار المسلمين صدمة قوية لليهود المدعومين من المنافقين، فلم يصدقوا ما حصل، واتخذت العداوة للإسلام طريق الدسّ والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريقٌ من المشركين واليهود ظاهراً وقلوبهم تغلي حقداً وكفراً وعلى رأس هؤلاء عبد اللّه بن أبي، وبعبارة أخرى كشفت ما كان يختزنه اليهود من حقدٍ وكراهية للمسلمين، فسخروا من هذا الانتصار، وحاولوا توصيف قوّة المسلمين ما جعل الأوضاع تتأزم بينهم وبين المسلمين، خاصة من جانب قبيلة بني القينقاع.
أمّا عن أسباب الانتصار في هذه الموقعة، فإنَّما يعود إلى عدّة عوامل:
ـ حكمة القيادة ووحدتها، حيث كان الرسول (ص) القائد العام للمسلمين، وكان المسلمون يعملون يداً واحدة، ينفذون أوامر الرسول (ص) بدقة متناهية، ومزودين بشجاعة نادرة. ووحدة الهدف الرسالي، أمّا المشركون فكانوا يشكلون تعدّد القيادة حيثُ لـم يكن عتبة بن ربيعة وأبو جهل على رأي واحد كما ظهر من سياق الأحداث، وليس لهم هدف واحد، لذلك طغت الأنانية والمصالح الشخصية على مصلحة قريش.
ـ الخطّة المحكمة التي أثبتها المسلمون في القتال، وهي خطّة مغايرة لما كان مألوفاً في الحروب السابقة، معتمداً في سبيل تحقيق الهدف تشكيلة لا تختلف بتاتاً عن الحرب الحديثة في الصحراء، كان لهم مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة كما استفادوا من دوريات الاستطلاع وكشف قوّة العدد، كما أنَّ المسلمين قاتلوا بأسلوب الصفوف في حين أنَّ المشركين قاتلوا على طريقة الكر والفر وهو أسلوب لا يتلاءم والأوضاع الجديدة.
ـ الحماس الشديد للتضحية وحبّ التفاني في سبيل نصرة الإسلام وأهدافه الرسالية، وهذا ما كشف عنه المسلمون أثناء استشارتهم، وكما أنَّه أعطى هامشاً للحرية يتحرّك أصحابه من خلاله، وهذا ما تبيّن في عدّة مواقع، في الوقت الذي كانت قريش قد جعلت غاية آمالها: أن تنحر الجزور وتطعم الطعام وتشرب الخمر وتعزف العيان.
ـ المعنويات العالية التي دخل فيها المسلمون المعركة وهم لا يكترثون بتفوق قريش عدّة وعدداً.