يقول العلامة السرخسي: "واعتمد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما صنع بسواد العراق على السنة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منعـت العراق درهما وقفيزها ، ومنعت الشام مُديها ودينارها، ومنعت مصر إردبَّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، قالها ثلاثا"(9). |
قال أبو عبيد: "معنى هذا الحديث والله أعلم أن هذا كائن وأنه سيمنع بعد في آخر الزمان". قال: "وفي هذا الحديث تقوية وحجة لعمر فيما فرضه على أهل العراق من الدرهم والقفيز" قال: "فاسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الدرهم والقفيز كما فعل عمر بالسواد وهذا هو التثبت"(10). |
وقال الإمام الخطابي: "معنى هذا أن ذلك كائن ، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين ، ويوضع عليها الخراج شيئا مقدرا بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان ، وخرج الأمر في ذلك على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأرض السواد ، فوضع على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزا"(11) . |
وهذا الحديث من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيكون من ملك المسلمين لهذه الأقاليم ، ووضعهم الجزية والخراج عليها، كما يقول الإمام الشوكاني (12) . |
وكما أن المسلم يجب عليه العشر أو نصفه في الخارج من أرضه فالكتابي يجب عليه الخراج فيما تنتجه أرضه، وكلا من الزكاة والخراج إنما وجب بصفة المؤنة للأرض؛ لأن بقاء الأرض يأيدي ملاكها يستغلونها وينتفعون بها موقوف على جهود كبيرة تبذل شق الأنهار، وتعبيد الطرق، وبناء الجسور، ثم إن أربابها لا ينتفعون بما تخرجه إذا لم تعين الدولة من يأخذ على أيدي المعتدين، ويحفظ الأمن ويصون النظام، وبما أن هذه الأعمال التي تقوم بها الدولة لمنفعة أرباب الأملاك، وجب أن تكون نفقة من يقومون بها في غلات الأرض وخراجها. |
وأما العشور التي تؤخذ في البلاد الإسلامية على عروض التجارة الواردة إليها، والصادرة منها، فأساسها تبادل المعاملة بالمثل بين البلاد الإسلامية وغيرها من البلدان. |
وسمى الفقهاء العامل الذي يقوم بأخذ العشور: العاشر، لأن ما يأخذه يدور على العشر، فإنه من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر إن لم يعلم ما يأخذون منا. |
ومما ينبغي في العمال الذين ينصبون لجباية العشور أن يكونوا أولي بأس ومنعة، ليؤمنوا التجار من اللصوص وقطاع الطرق ويحمونهم منهم، وفي مقابل تلك الحماية ساغ لهم جباية رسوم على ما يمر به التجار من أموال ظاهرة أو باطنة تختلف في صفتها، وقدرها تبعا لاختلاف الشخص المار بها، فهي من المسلم زكاة ، ومن الذمي جزية، ومن الحربي جزاء الحماية. |
وأما ما يؤخذ غنيمة بالقتال فقد فرض خمسة لمصالح عامة بينتها آية الأنفال ، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (13) وفي تخصيص هذا الخمس لمن سمى الله تعالى رعاية للمصلحة العامة، وتزكية لنصيب الغانمين حتى لا يحقد عليهم الضعفاء والمحتاجون. |
أما الخمس الذي يؤخذ من المعادن والركاز فإنه يصرف في مصارف الزكاة التي مرجعها إلى المصلحة العامة. |
وهكذا نرى أن الأساس في هذه الضرائب الإسلامية هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها. |
شرائط الضريبة العادلة: |
لا شك أن جباية الضريبة من الأفراد فيها استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رخص فيه لأن الضرورة قضت به ، إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، ومن القواعد المقررة أن الضرورة تقدر بقدرها، فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعى في وضعها وطرق تحصيلها مما يخفف وقعها. |
وقد وضع بعض علماء الاقتصاد في العصور الحديثة قواعد ثابتة لجباية الضرائب (14) وتقديرها، وطرق تحصيلها، وموعد جبايتها، وأصبحت هذه القواعد المقياس الذي تقاس به صلاحية الضريبة، وسلامة النظام المالي كله، وأولى هذه القواعد: |
قاعدة العدالة: |
والمقصود بها: أن يكون اشتراك كل مكلف في نفقات الدولة متناسبا مع قدرته ويساره؛ أي أن يكون اشتراكه بنسبة الدخل الذي يتمتع به في ظل الدولة. |
القاعدة الثانية ـ اليقين: ومعناها: أن الضريبة التي تفرض على كل فرد يجب أن تكون واضحة معلومة من حيث موعد الدفع، وكيفيته ومقدارها يدفع بحيث لا يتطرق إلى ذلك أي شك. |
القاعدة الثالثة ـ الملاءمة: ويقصد بها أن تكون جباية الضريبة في أكثر الأوقات ملاءمة للمكلف، وبالكيفية المتيسرة له أكثر من غيرها. |
القاعدة الرابعة ـ الاقتصاد: ومعناها: الاقتصاد في نفقات الجباية، فتفضل الضرائب التي تقل نفقات جبايتها على الضرائب التي تكثر نفقات جبايتها، حتى يكون الفرق بين ما يخرج من خزائن المكلفين وما يدخل في خزائن الدولة أقل فرق مستطاع. |
وإلى هذه القواعد الأربعة أضاف بعض علماء الاقتصاد قواعد أخرى بعضها متفرع عنها، وبعضها مكمل لها، وأهم هذه القواعد: أن كل ضريبة يجب أن لا تقع إلا على الدخل لا على رأس المال، وعلى صافي الدخل لا على جملة الناتج لتكون الضريبة من ثمرة المال، ولا يكون من عوامل نقص أصله، وأن الضرائب يجب أن لا تمس الدخل الضروري لحياة المكلف، فالحد الأدنى للمعيشة يجب أن يعفى من كل تكليف. |
هذه هي القواعد والشروط التي التزمها علماء المالية في شأن الضرائب. |
وإذا نظرنا في الضرائب الإسلامية وعن مدى موافقتها لهذه القواعد وجدنا أن الضرائب الإسلامية تجاري أحدث الأنظمة المالية في العصر الحديث. |
فالعدالة التي هي أولى القواعد مطلب الشارع الحكيم، وهذه القاعدة مراعاة في جميع الضرائب التي فرضها الإسلام. |
ففي الزكاة يجب العشر أو نصفه، وهو مقدار نسبي ولا فرق في هذا بين مال ومال ولا بين شخص وشخص، وهذا خلاف ما كانت تسير عليه التشريعات الغربية القديمة التي كانت تعفي من الضريبة طبقة النبلاء ورجال الدين. |
وحدد التشريع الإسلامي في الزكاة نصابا معينا فإن بلغه المال أخذ منه فالواجب بنسبة محددة، وإلا فهو عفو. |
وضريبة الجزية لا يطالب بها إلا الغني القادر، ولا يؤخذ من أحد إلا ما يناسب ماليته ودرجة يساره، وبذلك صدر أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاته في مختلف أقاليم الدولة، وجعلها على ثلاث درجات: ثمانية وأربعين درهما، وأربعة وعشرين، واثني عشر درهما على قدر إقلال الرجل وإكثاره (15 ). |
وكذلك ضريبة الخراج التي فرضها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الأراضي التي فتحت في عهده ورأى عمر إبقاءها بيد أهلها، راعى في وضع الخراج عليها منتهى العدل والرفق بأهل الأرض كل على قدر طاقته، وما تحتمله الأرض من جودة يزكو بها زرعها، أو رداءة يقل بها انتاجها ، وفي هذا يحدثنا القاضي أبو يوسف رحمه الله فيقول: "بعث عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة، وبعث عثمان بن حنيف على ما دونه، فأتياه فسألهما كيف وضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون، فقال حذيفة: لقد تركت فضلا، وقال عثمان: لقد تركت الضعف ولو شئت لأخذته، فقال عمر عند ذلك: والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون لأمير بعدي" (16). |
أما قاعدة اليقين فإنا نراها ماثلة في جميع الضرائب الإسلامية ، فمقدار الواجب، وموعد الدفع، وكيفيته كل ذلك معلوم علما يقينيا في كل الضرائب. |
|
فموعد أداء الواجب حين يحول الحول على المال في الزكاة والخراج، وعلى الشخص في الجزية، ويوم الحصاد في العشر ونصف العشر. |
وجعل الشارع أداء الحق موكولا إلى رب المال في الأموال الباطنة؛ لأن في عدها على صاحبها حرجا وإضرارا به، والستر على الناس من محاسن الشريعة الإسلامية فوكل إلى رب المال الباطن أن يؤدي الواجب الذي عليه بوازع من دينه. |
وطلب إلى ولاة الأمور أن يراعوا في تحصيل الأموال من أربابها وصرفها في مصارفها ما يقضي به العدل والرفق. |
وقد حرص القاضي أبو يوسف رحمه الله أن يؤكد هذا المعنى لأمير المؤمنين هارون الرشيد ويشير به عليه يقول يوسف مخاطبا لهارون الرشيد في شأن من يوليه جباية الخراج: "وتقدم إلى من وليت ألا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم ولكن يلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا، أو يحملوا ما لا يجب عليهم، وأن تكون جبايته للخراج كما يرسم له وترك الابتداع فيما يعاملهم به، والمساواة بينهم في مجلسه ووجهه حتى يكون القريب والبعيد، والشريف والوضيع عنده في الحق سواء (17) . |
وأما قاعدة الملاءمة والاقتصاد فتقضيهما المصلحة العامة التي يترسمها الشارع أينما وجدت، فقد روعي في تحصيل الضرائب الإسلامية وموعد جبايتها أكثر الأوقات ملاءمة للدافعين تيسيرا لهم ورحمة بهم. |
وكانت الضرائب الإسلامية لا تكلف الدولة في النفقات على جبايتها إلا الشيء القليل، الأمر الذي يختلف عما تسير عليه كثير من الدول في العصر الحاضر حيث تعين لجمع الضرائب عددا من الكتبة، والمحصلين، والمراجعين وغيرهم ممن يمكن الاستغناء عن بعضهم وليس هناك حاجة لبقائهم. |
. |
. |
". |