هذا حديث يتصل بالحروب الصليبية في القرون الوسطى، جرت حوادثه سنة 647 هـ، فقد كان يراود الصليبيين حلم الاستيلاء على مصر، فجردوا لها حملة بحرية، تفوق ما سبق من حملات في عدة أمر: في كثرة عدد الغزاة عدداً يفوق حد التصور، وفي ضخامة الأسطول ضخامة لا شك في انتصاره، ثم –وهذا أهم ما في الأمر- أن قائد الحملة ملك يديس فرنسي، هو لويس التاسع، وما ظنك يا قارئي العزيز بأحاسيس وانفعالات غزاة يقودهم ملك من جنسهم، مشهور في بلاده بالتقوى، ويطلقون عليه لقب قديس، ولا ينادونه إلا بالقديس لويس.
خرج القديس لويس من بلاده بأسطوله الضخم وغزاته الكثيرين قاصداً مصر، مركز المقاومة الإسلامية ضد أطماع الصليبيين، وتحدثه نفسه بالانتصار في الحملة انتصاراً لا شك فيه، الانتصار الذي يملك فيه مصر من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
ووصل القديس وأسطوله وغزاته إلى دمياط، واستولوا عليها لسبع بقين من صفر، وهكذا تحققت أولى خطواته بالانتصار، ثم سرب بأسطوله في النيل، وقد قدر هو وشياطينه وأسطوله أن الطريق قد فتح أمامهم إلى مصر فلن يجدوا مقاومة، وظلوا في سربهم وقد ملأ الفرح قلوبهم، وهم لا يقدرون أن "المنصورة" التي انهزم فيها طغاة الحملة السابقة تنتظرهم بأبطالها لتعيد الدرس الذي ألقته على من سبقهم.
فما كاد شعب مصر يعلم بسقوط دمياط حتى نفر عن ساق واحدة: الفلاحون والعربان والتجار والعمال للجهاد، حتى اللصوص، خرجوا مع الجند، لا ليسرقوا الجند أو إخوانهم أبناء بلدهم، وإنما ليسرقوا الصليبيين، ويذبحوهم ذبح النعاج.
ورتب الملك الصالح أيوب معسكراته لجيشه النظامي، وترك أبناء الشعب لحريتهم يفتكون بأعدائهم، أو يخطفونهم ويبعثون بهم إلى القاهرة ليحتفل بهم أهلها بالطريقة التي تروق لهم.
وشاء الله للصالح أيوب ألا يشهد بنفسه انتصار مصر على فرنسا، فقد كان مريضاً قبل إغارة الفرنسيين، ثم أخذ يشتد به المرض، حتى قضي عليه وهو يستعد للدفاع عن الدين والوطن، في نصب شعبان من نفس السنة، فتسلم الملك ابنه الملك المعظم تورانشاه.
وظن الملك القديس الصليبي أن موت الملك الصالح أيوب بشرى خير لانتصاره المؤكد على المصريين، فتحرك بشياطينه وأسطوله من دمياط، وتوغل في النيل جنوباً إلى القاهرة، وكانت تلوح أمام عينيه ألوية النصر تخفق فوق رأسه، وهو لا يحسب للمصريين حساباً، ولا يتوقع ما سوف يحدث في المدينة المنصورة من جلل الأحداث وأعظم الخطوب بالنسبة للحملة كلها، وبالنسبة له خاصة، وأنه سيؤول أمره إلى أن يصير حبيس بيت القاضي ابن لقمان، وأسير الطواشي صبيح فيبيع نفسه بيع السوائم للمصريين.
استمر القديس الصليبي في أحلامه وهو على ظهر أسطوله الذي يجري في النيل، وهو يود أن يسابق الريح، والرجالة تسير في البر مع الأسطول، وفيما هو سابح في حلمه الشيطاني، فوجئ بصوت كهزيم الرعد، أنْ: قف، إلى أين أيها الواغل الغافل، فإنك لن تخطو بزعانفك بعد ذلك خطوة واحدة، وتنبه الحالم من غفوته، وأخذ يسرح الطرف ليعرف أين هو من بلاد مصر، ولما قيل له أنه في مدينة المنصورة حام حوله نذير الشؤم فتطير، وأحس بالغصة تكاد تخنقه، لولا أن التف حوله أذنابه يشجعونه، ويعيدون الثقة إلى نفسه.
ودارت الحرب بين أصحاب الحق وسراق الحقوق، ونشبت المعارك العنيفة بين المعسكرين، كل يجاهد للانتصار، وكل يعمل للغلبة، ولنترك الجيوش تتصارع بطرقها المعروفة، لنتجه إلى الشعب الذي خرج مع جهده يشد أزره ، ويحمل معه عبء حماية البلاد من اللصوص.
حين كان الجيش الإسلامي يواجه قوات القديس الصليبي، كان الشعب من خلف الجيش يجاهد بأسلوبه وطريقته، فقد كان الشعب من أهالي البلاد التي على الشاطئ يخطفون الصليبيين كما يخطف الرضيع الذي لا يملك لنفسه دفعاً، حتى خطفوا منهم جمعاً كبيراً، وكلما خطفوا جماعة أرسلوهم إلى القاهرة ليستقبلهم القاهريون استقبالاً يليق بهم كقراصنة ولصوص، حتى امتلأت محابس مصر بهم، أما من لا يستطيعون إرساله فكانوا يقضون عليه في مكانه، حتى قتلوا بطريقتهم عدداً أكبر وأضخم مما أسروا، وكانوا كلما نذر بهم الفرنج يلقون بأنفسهم في الماء، ويسبحون إلى أن يصيروا على الشاطئ الإسلامي.
وجميع حيل الخطف معروفة، وقد استنفد المسلمون حيلهم فما أصبحت تجوز على الصليبيين، فقد عرفوا حيلهم، واكتشفوا طرق خداعهم لهم، فتوقفت حركة الخطف، واطمأن الصليبيون على أرواحهم من الخطافين، فأخذوا ينتشرون أفرادا على الشاطئ يستمتعون بمنظر النيل الجميل تحت أشعة القمر الفضية.