وقال: لا يجوز لكل رجل يسعى في خلاص روحه أن يتوانى عن سلوك طريق الرب بكل خشوع وإن احتاج إلى المال فالعناية الربانية ستسعفه.. وأضاف في بيانه قائلاً: أيها الإخوان عليكم أن تتحملوا كثيراً من المشقة والفقر والعذاب من اجل اسم المسيح وتعانوا العري والاضطهاد والمذلة والمرض والجوع والعطش وما شاكل هذا من صنوف الشرور كما قال الرب لحوارييه (سأريكم كم ينبغي أن تتألموا من اجل اسمي.. وقوله (إني أنا أعطيكم فماً وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها).. أو كما قال أيضاً (إنكم ستأخذون ميراثاً عظيماً)..
إن المشروع الأصلي للحرب الصليبية كما تخيله البابا اوربان الثاني في ذهنه كان يتلخص في إرسال فرقة عسكرية من الفرسان الأوربيين لمساعدة الإمبراطور البيزنطي (الكسيوس) في صراعه ضد الأتراك السلاجقة في أسيا الصغرى قبل الزحف إلى الأراضي المقدسة.. ولذلك فأن دعوة البابا اوربان الثاني كانت موجهة بشكل مباشر إلى طبقة الفرسان في وطنه فرنسا، لا سيما أن هذا البلد كان يتميز بضعف السلطة المركزية فيه وانعدام القانون في أرجائه انعداماً مزمناً نتيجة أعمال أولئك الفرسان وممارساتهم، وبذلك ربما كانت الحرب المخرج الوحيد لنقل أعمال العنف هذه من تلك البلاد إلى مكان أخر واعطاء الفرسان الأوربيين في الوقت نفسه فرصة للخلاص أيضاً.. ولقد استجاب هؤلاء الفرسان وبأعداد كبيرة لنداء البابا اوربان الثاني وشكلوا العمود الفقري للجيش الصليبي.
الحملة الصليبية الأولى..
في شتاء 1095-1096 اجتمعت في فرنسا قوات مدنية غفيرة من الفقراء المستعدين للذهاب إلى المناطق البعيدة..
وفي آذار 1096 نهضت أول جموع الفلاحين الفقراء من فرنسا الشمالية والوسطى ومن الفلاندر ولورين وألمانيا ثم من بلدان أخرى في أوربا الغربية إلى الحج المقدس..
وعلى حد تعبير صاحب يوميات (أعمال الفرنجة): جاء إلى الوجود هذا اليوم ما كان المسيح يقوله دوماً لاتباعه ومصداقاً لما جاء في الكتاب المقدس (إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني)..
مما أحدث هياجاً عظيماً، ولم يتوان كل ذي قلب طاهر وروح سليمة، صادق النية في إيمانه بالرب عن حمل الصليب والمبادرة لاخذ الطريق نحو القبر المقدس...
كان الفلاحون يمضون بلا سلاح تقريباً.. كانت الهراوات والمناجل والفؤوس والمذاري تقوم عندهم مقام الرماح والسيوف.. كانوا يتحركون مثل حشود غير منتظمة من النازحين، بعضهم مشياً على الأقدام، واخرون على عربات من عجلتين تجرها الثيران، مع نسائهم واولادهم وامتعتهم البيتية الحقيرة.. آملين سراً في تدبير امورهم بنحو افضل في أماكن جديدة في (أرض الميعاد) في الطريق سلك الصليبيون سلوك النهابين.. فاثناء مرورهم في أراضي المجريين والبلغار، كانوا ينتزعون المأكولات بالعنف من السكان، ويسوقون الاحصنة والبقر والغنم ويقتلون ويغتصبون ويتعسفون.. كان النهب بالنسبة للفقراء الأسلوب الوحيد لتحصيل ما يأكلونه.. وكان الصليبيون يواصلون النهب والسلب بعد دخولهم أراضي بيزنطية، لم يكن لدى الفلاحين نقود لكي يدفعوا ثمن المؤونة المقدمة لهم، ناهيك بأن عدداً لا يستهان به من العناصر المتفسخة طبقياً الذين كانوا يرون في المشروع الصليبي مجرد وسيلة ملائمة لأجل النهب والسلب كان يشترك في زحف الفلاحين والفقراء.. وعلى حد وصف أحد مدوني الأخبار لهؤلاء الصليبيين (أن كثيرين من شتى الأوباش قد التحقوا بالعســـكر الصليبي، لا لكي يكفروا عن الخطايا، بل لكي يقترفوا خطايا جديدة)...
إن الصليبيين الذين فسدت معنوياتهم بأعمال السلب والنهب السابقة قد سلكوا في عاصمة الإمبراطورية البيزنطية أيضاً سلوكاً منفلتاً لا ضابط له.. فقد كانوا يدمرون ويحرقون القصور في ضواحي المدينة، ويتخاطفون صفائح الرصاص التي كانت سطوح الكنائس مصنوعة منها..
مذابح الصليبيين
في كتابه (على خطى الصليبيين) يقول مؤلفه الفرنسي (جان كلود جويبو).. تحت ضغط الحجاج قرر (رايموند دي سال ـ جيل) بدءً من 23 نوفمبر محاصرة معرة النعمان ـ في سوريا ـ كان الحصار طويلاً صعباً لكن الصليبيين افلحوا في الاستيلاء على المدينة وذبحوا سكانها.. وفي هذا يقول ابن الأثير: خلال ثلاثة أيام اعملت الفرنجة السيف في المسلمين قاتلين اكثر من مائة ألف شخص واسرين عدداً اكبر من الأسرى..
يقول الكاتب الفرنسي: في جهنم معرة النعمان المتروكة للرعب وللجوع والعطش وبينما كان البارونات يتشاجرون كان الفقراء وقطاعاتهم قد استسلموا لاغراء الممنوع بين الجميع.. فجثث المسلمين التي طرحت في الخنادق قطعت والتهمت بشراهة..
وكتب المؤرخ (راوول دين كاين): عمل جماعتنا على سلق الوثنيين ـ يقصد المسلمين ـ البالغين في الطناجر، وثبتوا الأطفال على الأسياخ والتهموها مشوية ويكتب المؤرخ (البيرديكس): لم تتورع جماعتنا عن أن تأكل الأتراك والمسلمين فحسب وإنما الكلاب أيضاً..
ويكتب (الانويم): بعضهم الآخر قطع لحم الجثث قطعاً وطبخها كي يأكلها..
واخيراً في رسالة رسمية جداً كتبت للبابا (مجاعة رهيبة أوقعت الجيش في (المعرة) ووضعته في الضرورة الجائرة ليتغذى من جثث المسلمين.. ويذكر المؤلف الفرنسي معقباً على تلك الشهادات: في الإسلام برمته سيزرع هذا المشهد الخوف ويؤدي بعدد من المدن العربية إلى الاستسلام دون قتال مع وصول الفرنجة..
وقد كتب (امين معلوف) تعليقاً على تلك الشهادات: لن ينسى الأتراك مطلقاً أكل الغربيين للحم الإنسان، وعبر كل أدبهم الملحمي سيكون الفرنجة موصوفين دائماً كأكلة لحوم البشر، وسوف يساهم مشهد معرة النعمان بحفر هوة بين العرب والفرنجة لا تكفي قرون عديدة لردمها...
وينقل لنا الكاتب صفحات من تاريخ أوربا الهمجي في المدينة التي أمنوا بقدسيتها ـ ونعني بها القدس ـ يقول:
وانفلت الرعب الذي عرضته اليوميات بهلع، الرعب الذي يسميه رينيه غروسية (الخطيئة) التي تحط من شرف الصليبيين، انه الرعب الذي انطبع في الذاكرة الإسلامية إلى الأبد.. ويتابع قائلاً: اخذ الصليبيون يلاحقون ويذبحون المسلمين واليهود الذين كانوا عندئذ حلفاء..
ويصف ابن الأثير في الكامل الاستيلاء على القدس: ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، وقتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على السبعين الفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور ذلك الموضع الشريف، ثم بدأ النهب والسلب..
أما ما ذكره الفرنجة من خلال يومية مجهول من الحملة الصليبية الأولى فهي: وحالما دخل حجاجنا المدينة تابعوا ذبح المسلمين حتى معبد سليمان حيث تجمعوا ودخلوا طيلة اليوم في معركة عنيفة مع جماعتنا وكان ذلك إلى حد أن المعبد كان يرشح من دمهم...
ويكتب (وليم الصوري): كانت المدينة تمثل بمذبحة الأعداء هذه مشهداً ما كان حتى للمنتصرين أنفسهم إلا أن يتأثروا بالرعب والتقزز، أما الانويم فيستعمل صورة سوف يستعيدها التاريخ حيث يؤكد انه داخل المسجد الأقصى كان جماعتنا يمشون في الدم حتى عراقيب أرجلهم، ويتحدث اخباريون آخرون أن أكوام الجثث تلك التي ظلت تحرق تحت أسوار المدينة على امتداد أسبوع بكامله..
ولا نستطيع أن نسجل جميع تلك الأحداث التي جرت في الحروب الصليبية والتي لا يكفيها مقال واحد ولا حتى عشرات المقالات بل تحتاج إلى مجلدات كبيرة وكثيرة..
خاتمة..
لقد كان مشروع البابا اوربان الثاني جذاباً للغاية حتى أن عناصر المجتمع الأوربي كافة كانت ممثلة تقريباً في الحملة الصليبية الأولى، ولكن الاستثناء اللافت للنظر كثيراً في هذا العدد هو غياب ملوك أوربا جميعاً عن هذه الحملة.. فقد اعتبر البابا اوربان الثاني الحملة الصليبية مشروعاً يرتبط بالبابوية ارتباطاً مباشراً، ومن ثم لم يدع الملوك العلمانيين في الغرب بشكل واضح للانضمام إليه...
ولا بأس في النهاية أن نذكر جملة من الأسباب التي ادّت إلى استجابة الناس بهذه الأعداد لنداء البابا اوربان الثاني إضافة إلى الأسباب التي ذكرناها في البداية:
1ـ التوسع المكاني لذلك العصر (إقطاعيات جديدة لما وراء البحار)..
2ـ البطالة التي كانت تخيم على بقية الأبناء بعد البكر في العائلة النبيلة التي تمنح الثروة للابن البكر...
3ـ مصلحة البابوات وعدد من ملوك أوربا وسلطة الكنسيين وشره الرهبان..
4ـ حقد المسيحيين على المسلمين..
ولا يفوتنا أن نذكر أن الصليبية ظاهرة حملت شعار الصليب (الذي لم يكن أبدا رمزاً للحرب والقتل والعدوان) ولم تحمل جوهر المسيحية.. بينما تسترت بلباسها وحملت رايتها وقتلت (حتى المسيحيين) باسمها فكانت معادية لرسالتها وأهدافها.. وكما عبر البابا شنودة الثالث بقوله: إن المسيحية تخالف الفكر الصليبي، وإن الغزاة استتروا وراء الدين ووراء عبارة الأماكن المقدسة، ثم كشفوا عن هدفهم وهو الاحتلال...