الكيانات الحضارية الإسلامية في آسيا
الأتراك السلاجقة
الأتراك السلاجقة: ويمثلون القوة الإسلامية الجديدة التي حلت محل الغزنويين في خراسان والمشرق الإسلامي، والتي غذت الإسلام، بدماء فتية جديدة، ساعدته على الصمود والانتصار، والانتشار في بلاد الروم. ذلك لأن الخلافة العباسية قبل ذلك الوقت كانت عاجزة عن حماية حدودها بسبب عداوتها مع الخلافة الفاطمية في القاهرة. وقد انتهزت الدولة البيزنطية هذه الفرصة، وأخذت تغير على الحدود الإسلامية المتاخمة لها، وتتوغل في شمال الشام والجزيرة. ولكن من حسن حظ الخلافة العباسية في ذلك الوقت، أن جاءتها من المشرق تلك القوة التركية الفتية المليئة بفتوة البداوة وعنفوانها، فأنقذتها من انهيار محقق. ففي سنة 463 هـ (1071 م) استطاعت جيوش السلاجقة بقيادة سلطانها "ألب أرسلان "، وباسم الخلافة العباسية، أن تحرز انتصاراً حاسماً على الإمبراطور البيزنطي "رومانوس ديوجينيس" " ROMANOS DIOGENES وأن تأخذه أسيراً في موقعة " ملا ذكرد " أو "منزكرد " من أعمال "خلاط " على الفرات الأعلى، شمال بحيرة فانVAN عند أرمينية.
لقد جاء السلاجقة في فترة انحطاط القوى الإسلامية الأخرى من عباسية وفاطمية ونجحوا في توحيد المشرق الإسلامي من جديد، فأعطوا المسلمين الحيوية والنشاط في الجهاد ضد الصليبيين، ويذكر بأن طغرل سلطان السملاجقة كتب إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله مظهراً ولاءه له، مؤكداً حبه لرفع راية الإسلام وإعلاء كلمة الله في نشر الإسلام غرباً، وقد أقره الخليفة العباسي سنة 432 هـ/1040 م سلطاناً على السلاجقة، مما أكسب دولة السلاجقة الفتية صفة الشرعية وأثار حميتها الدينية لمنا جزة البيزنطيين واسترداد البقاع التي كانوا قد احتلوها في أرمينية والأناضول وقد أعطت نتائج هذه الموقعة سمعة إسلامية ضخمة للسلاجقة باعتبارهم المجاهدين والمدافعين عن الإسلام، والعاملين على نشر الدعوة، وإزاء ذلك مهدت الطريق أمام السلاجقة لنشر الدعوة في آسيا الصغر- حيث وجه "ألب أرسلان " ابن عمه " سليمان قتلمش "، إلى الأناضول، وأقام هناك دولة سلاجقة الروم، نسبة إلى بلاد الروم التي قامت فيها. ومنذ ذلك الوقت، عم الإسلام بلاد آسيا الصغرى التي صارت تعرف إلى الآن باسم بلاد الأناضول الإسلامية.
واستحدث السلاجقة- أيضا- بعض الأنظمة والعادات الفارسية والتركية التي جلبوها معهم من المشرق، ولم تكن معروفة من قبل أيام الأمويين والعباسيين والفاطميين. ومن أمثلة ذلك، استخدام "الجاليش " في مقدمة الجيش. و،" الجاليش " عبارة عن خصلة وشعر ذيل الحصان، كانت ترفع في أعلا سنان الراية أمام الجيش. ثم صارت تطلق مجازاً على مقدمة الجيش أو طلائعه باسم " الجاليشية " .
ومن "أمثلة ذلك أيضاً حمل "الغاشية " بين يدي السلطان في الأماكن والمناسبات الحافلة كالميادين والأعياد والمواكب ونحوها كشعار للسلطنة. و "الغاشية" عبارة عن سرج من الجلد مخروزة بالذهب حتى يخالها الناظر كلها مصنوعة من الذهب. يحملها ركاب الدار بين يدي السلطان، ويلفتها يميناً وشمالاً. وقد انتقلت هذه العادة إلى مصر والشام على يد صلاح الدين الأيوبي وخلفائه، واستمرت بعد ذلك في أيام سلاطين المماليك كرمز للطاقة والإخلاص للسلطان: "حمل الغاشية بين يديه ".
كذلك استحدث السلاجقة نظام المدارس الدينية، وهي منشآت علمية هدفها بث روح الجهاد بين المسلمين والتصدي للطائفية، مثل المدرسة النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي "نظام الملك " في بغداد. وسار على هذه السياسة "نور الدين محمود زنكي " في الشام ثم "صلاح الدين الأيوبي " في مصر. على أنه يلاحظ في هذا الصدد أن مدينة الإسكندرية عرفت نظام المدارس الدينية في أواخر أيام الفاطميين وقبل مجيء صلاح الدين الأيوبي، فأول مدرسة أنشئت فيها هي المدرسة الحافظية التي أسسها "رضوان بن ولخشي " وزير الخليفة "الحافظ الفاطمي سنة 533 هـ "، وأسند التدريس فيها إلى "الفقيه المالكي أبي الطاهر بن عـوف "، الذي سبق أن قرأ المذهب المالكي على زوج خالته أبي بكر الطرطوشي المشهور بكتابيه " سراج الملوك"، و "الحوادث والبدع ".
وبعد عشر سنوات أي في سنة 544 هـ بنى "العادل بن السلار"، وزير الخليفة الظافر الفاطمي، مدرسة دينية أخري بالإسكندرية، وأسند التدريس بها إلى "الفقيه الشافي أبي الطاهر أحمد السلفي " صاحب كتاب "معجم السفر". ويمكن القول بأن به الأيوبيين هم الذين اهتموا في الواقع ببناء المدارس في أنحاء مصر والشام متأثرين في ذلك بسياسة السلاجقة.
وقد سار السلاجقة- أيضا- على سنة أسلافهم هم السامانيين المتمثلة في الإكثار من المماليك الأتراك، وتربيتهم منذ الصغر تربية عسكرية إسلامية لاستخدامهم في الجيش والإدارة. وقد شرح هذا النظام وزير السلجوق "نظام الملك الطوسي " في كتابها، سياسة نامة " إرشادا للحكام السلجوقيين. وعلى هذا الأساس غلب الطابع العسكري على الدولة السلجوقية، فصار ولاتها وقادتها من هؤلاء " المماليك كما أصبحت معظم أراضيها في فارس، والجزيرة، والشام، مقسمة إلى إقطاعيات عسكرية يحكمها القادة من هؤلاء المماليك، في مقابل الخدمات العسكرية التي يؤدونها للدولة في وقت الحرب. وسمي هؤلاء المماليك الكبار باسم "الأتابكة". و "الأتابك" لفظ تركي مركب معناه الأب الأمير، ومعناه المربي لابن السلطان، ثم أصبح لقبا تشريفيا يمنح للكبار من القواد بمعنى أبو الجيش أو قائد الجيش أو نائب السلطنة.
وهكذا نرى مما تقدم أن السلاجقة في أيام قوتهم اتخذوا أشخاصاً من كبار مماليكهم أطلقوا عليهم "الأتابكة" ليكونوا مربين لأولادهم القصر، ومنحوهم إقطاعيات كبيرة مقابل قيامهم على شئون هؤلاء الأبناء، وتأديتهم الخدمة العسكرية وقت الحرب. ولكن سرعان ما صار هؤلاء "الأتابكة" أصحاب النفوذ والسلطان في تلك الولايات. ومن مشاهير الأتابكة في أوائل القرن السادس الهجري(13 م)، الأمير "عماد الدين زنكى" مؤسس أتابكية الموصل وحلب، وهو ابن قسيم الدولة اق سنقر الحاجب الذي بدأ حياته مملوكا" للسلطان "ملكشاه المسلجوقي "، وعن طريق "زنكي وابنه نور الدين محمود" كان ظهور قواده "نجم الدين أيوب " وولده"صلاح الدين " الذي تأثر بالنظم السلجوقية، واليه يرجع الفضل في انتقال تلك النظم إلى مصر والشام، حيث بقيت زمان الأيوبيين، ثم بعد ذلك دولة المماليك الأتراك، التي تبلور فيها هذا النظام التربوي العسكري الإسلامي، وصار راسخاً متيناً، ومكنها من صد الزحف المغولي شرقاً، وطرد المستعمر الصليبي من مصر والشمام غرباً. وفي ذلك يقول " القلقشندي " (صبح الأعشى ج 4 ص 6): "ود أبت سلطنة المماليك في مصر على أن تنقل عن كل مملكة سبقتها أحسن ما فيها، فسلكت سبيله، ونسجت على منواله، حتى تهذبت وترتبت أحسن ترتيب، وفاقت سائر الممالك، وفخر ملكها على سائر الممالك " .